رحل عن دنيانا الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، والذي يكاد يكون أفحل شعراء العرب في القرن العشرين برأي كثيرين، هو الذي اعتبره أستاذه الشاعر محمد مهدي الجواهري خليفته الأوحد في يومٍ من الأيام.
لقد أوصى من قال يوماً عند إعدام صدّام حسين “لست أرثيك لا يجوز الرثاء /كيف يرثى الجلال والكبرياء” بألا يدفن في العراق طالما أنّها لم تحرّر. مات بين من يشبهونه، وسط ضجيج أبواق الاستعمار الإيراني الذين كانوا ينوحون على رحيل غير المأسوف عليه، العميل أحمد الجلبي أيّاماً قليلة قبلها.
توفي أحمد الجلبي، أو عميل المخابرات المركزية الأميركية الذي كان ممن فبركوا الأكاذيب التي تمّ على أساسها اجتياح العراق. وصفته مجلّة نيوزويك على غلافها عام 2004 “محتالنا في بغداد”. كان في الوقت نفسه جاسوساً لإيران، وكان قد أهداه الخميني مصحفًا كتب عليه “إلى ابني أحمد” (“الغارديان” 25 مايو/أيار 2004). ثمّ صدرت بحقّه مذكّرة من البوليس الدولي (إنتربول) لتسببه بإفلاس بنك بترا في الأردن بحوالي 300 مليون دولار. بعدها انتدبه الإيرانيون ليقود الهجمة المذهبية البائسة الحالية على البحرين.
وكان يتمّ، أخيراً، تلميعه إيرانيا وأميركياً، لكي يصبح رئيس وزراء “العراق الجديد” (“الغارديان” 5 يوليو/تموز 2014)، لكن هاديس إله الجحيم أراد له غير ذلك. هو عرّاب عراق “المنطقة الخضراء” الذي دمّر فساد من فيها البلاد بعد نهبهم 185 مليار دولار. هؤلاء هجّروا الشعب العراقي وقتلوه، ومن تبقى من الشعب بقي ليقوم بمظاهرات ضدهم منذ أشهر، بينما هم يختطفون فيها الناشطين ويقتلوهم. عراق الجلبي هو عراق الميلشيات العراقية الشيعية المسعورة طائفيًّا، الإيرانية الولاء والأميركية التسليح، التي تقوم بالتطهير المذهبي لإحداث تغييرات ديموغرافيّة، حيث أعلن، أخيراً، المحافظ السابق لديالى، عمر الحميري، بأنّ “أكثر من27 ألف عربي سنّي تمّ خطفهم، وتمّ قتل 78 ألف سني عراقي منذ 2003”.
عراق الجلبي هو عراق تمّ تكليل اختطافه الاستعماري من إيران، بإذلال العراقيين مرّة جديدة، الذي فرض عليهم دفن قاتلهم وناهبهم وعميل الإمبريالية الأميركية، أحمد الجلبي، إلى جانب أئمة أهل البيت الأكارم في الصحن الحيدري.
وسط ذلك كله، قال عراقي موصليّ في أبي خالد الشاعر “رحل عراقُنا بعد أن أخذوا عراقَنا منا”. يحيلنا عمق الكلام هذا إلى وظيفة الشاعر في الظرف التاريخي المريع الذي يجتاح الأمة العربيّة: إنّها نفسها المهمّة الحضارية التي كانت دائماً ملقاة على عاتق الشعراء منذ أيام هوميروس وأسخيلوس وسوفوكليس مرورًا بالمتنبي، وصولاً إلى ناظم حكمت ومحمود درويش. في النوائب والصعاب القوميّة، يصبح الشاعر، لكن ليس أيّ شاعر، وحده من يستطيع من كسر حدود اللغة.
يخرق الممنوع المكبوت ليعبّر عن وجدان الشعب، عن آمال الأخير وطموحاته وعن مخاوفه، فكيف عند العرب وهم أشعر الشعوب قاطبة؟ لذلك، عندما يقصّر الفعل، لا يبقى هناك سوى الشاعر، ليعيّن من هم الأعداء، يرفل كلامه باللعنات على مسببي النوائب، غير عابئ بالتفاصيل الصغيرة والتحفظات البليدة، فالغضب الهادر لا يأخذ إذناً من أحد. يتمّم من على المنبر إسكات كل اللغو، ويقول “الكلمة”. الفلاسفة والسفسطائيون لا يمكنهم فعل ذلك.
مهمتّهم تأخذ وقتاً كثيراً بين حجّة وحجّة مضادة. “تحليلاتهم” في أحسن الأحوال لا تدخل قلوب الناس، حتى عندما تدخل إلى عقول بعضهم. أمّا العامّة التي تعبّر عن أهوائها المتضاربة، تعوزها، في غياب القيادة، وضوح الرؤية واللغة. يبقى شاعر الحضارة في الساحة وحيدًا، شاعر يعبّر عن حضارة كاملة تمتد آلاف السنين إلى الوراء، مثل عبد الرزاق عبد الواحد، قابضٌ على الجمر لا ينحني أمام الميوعة الجبانة السائدة: شاعر الأمة يصبح حلقة الوصل بين أفضل ما في وجدان العامّة وقلوبهم، وبين عقل أفضل فلاسفتها ليخلق أملًا جديدًا. يبوح بالأسرار التي يعلمها الجميع، والتي لا يجرؤ على أن يقولها أحد.
المعروف أنّه يُعاب على الشاعر الراحل مديحه للرئيس صدام حسين، لكنه أوضح فقال “لا أزال أكتب لصدّام كرمز للعراق”. منطق الشعر الحضاري هنا ينفصل ويتعالى على منطق سياسي ضيّق، لا يرى في صدام سوى ديكتاتور. هذا منطق، لا يميّز بين ظروف وأزمنة وأوضاع مختلفة، علمًا أنّ الأيام تثبت أكثر فأكثر ضرورة القيام بمراجعة كاملة مع الذات مع كلّ المسلّمات الساذجة عن العراق وصدّام حسين، خصوصا من أكثرية “نخب” سورية ولبنانية وفلسطينية.
لذلك، يلتقي شعر عبد الرزاق عبد الواحد مع إحساس الناس الذين يرون عوالمهم العربيّة تنهار، فتأتيهم صورة الرئيس العراقي صورة بطل عربيٍّ مثّل فخر أمّته أمام المغول الجدد، بطبعاتهم المتعدّدة ومخلّفاتهم الجلبيّة. وإذا كان وجدان جماهير الأمة العربية يترحّم اليوم على العراق أيّام صدّام حسين، ويجعل منه، وعلى نحو عفويّ، رمزاً للتصدّي للاستعمار الأميركي-الإيراني، فهذا يعني أنه، وقبل أن يهيج آخرون، ليدينوا ذلك، يجب أن ننصت جيّدًا لماذا يحصل هذا، وأن نحاول أن نفهم لماذا يصرّ الناس على ذلك. فعلى الرغم من معرفة الجماهير أنّ العراق أيامها لم يكن مثاليًّا أو ديموقراطيًّا، إلا أنها تعلم كذلك أنّ العراق حينها كان حتماً أفضل من عراق ما بعد الغزو، ثم المستعمرة اليوم بما لا يقاس. ليس ذلك فقط، هم يعلمون أيضاً أن وضع الأمة العربية بأسرها كان أفضل من وضع الأمة العربيّة اليوم.
إذ ذاك، يسبق وجدان الشعب العربي عقل معظم “مفكّريهم” المنفصلين عنه. ويعبّر عنه شعر عبد الرزاق عبد الواحد. إننا في فترة دفاع قومي ضد هجمات استعمارية لم يسبق أن تعرّضنا لها في تاريخنا، وبأنّ الأولوية الآن هي في شحذ الهمم والأفكار للصمود والدفاع عن حضارتنا العربية التي يُراد تدميرها بكل معنى الكلمة.
أما النوع الأدنى من المفكرين الذين يقلقون كثيراً ليغرقوا في ما هو “لائق” أو “مناسب”، وينصتون أوّلاً لكل من هم ليسوا من جماهير شعبهم، فحتى الأذكياء فيهم تنقصهم إجمالاً شجاعة الموقف. هؤلاء لا يفيدون في النهاية بشيء، بل هم، في أغلب الأحيان، لا يقومون سوى بالتشويش الفكري، ولا يبقى لنا حينها إلا الشجعان الأذكياء غير الآبهين.
فصلت أيام قليلة بين موت الجلبي العميل ورحيل الشاعر الكبير، أيّام مليئة بالمفارقات المثيرة للغثيان التي يجب أن تجعلنا نفكّر فيما نحن فيه. هنا، لا يمكن سوى ترداد الرحمة لروح الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي ذهب للقاء وجه ربه بعد غياب العميل أحمد الجلبي. وهو كما لو أراد بذلك أن يصبح عرّاف العراق، فيطمئننا بأن العرب سينتصرون على الاستعمار الأميركي-الإيراني-الصهيوني في النهاية. كان هذا الرحيل القصيدة الأروع والأخيرة لشاعر العرب.
المصدر : العربي الجديد