مع اقتراب عام 2015 من بلوغ نهايته، تستعد المنظمات والمؤسسات التي تعنى بإحصاء عدد قتلانا لإصدار بياناتها السنوية، وهي تراقب عن كثب حصيلة صراعاتنا “الأخوية” في عملها مدفوع الأجر.
ومع التدخل الروسي، يتوقع أن يتجاوز عدد السوريين الذين قضوا هذا العام عددهم في العام السابق، والذي بلغ 70 ألفاً. ويساوي هذا العدد خمسة أضعاف عدد الذين سقطوا في العراق في عام 2014، والذي يعد الأكثر دموية منذ 2006، نتيجة احتدام الصراع بعد صعود تنظيم الدولة واستيلائه على ثلث البلد.
أما العدد الكلي للصراع السوري، فقد بلغ، منذ انطلقت الثورة ربيع عام 2011، بحسب أكثر التقديرات تحفظاً، نحو ربع مليون قتيل. فيما أسفرت الحرب، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو أحد المؤسسات الإحصائية المتخصصة، عن إصابة 1.5 مليون إنسان بإحدى أنواع العاهات، أو العجز الدائم.
من بين أشياء كثيرة أخرى، تبين هذه الأرقام كم كان خادعاً المشهد الذي ساد مطلع عام 2011. ففي وقت كانت ثورات “الربيع العربي” تجتاح المنطقة من المغرب باتجاه المشرق، بدا النظام السوري الأكثر استقراراً من بين الأنظمة العربية جميعاً. لا بل إنه في الوقت الذي كانت تحتشد فيه الملايين في ميدان التحرير وشوارع القاهرة تطالب بإسقاط نظام حسني مبارك، كانت تقارير الاستخبارات الغربية تستبعد وصول موجات التغيير إلى سورية، فالوضع السوري كان مضبوطاً بطريقة حازمة، حيث تمسك أجهزة الدولة البوليسية بخناق المجتمع، إلى درجة لا يمكن معها توقع أي حراك اجتماعي، ولو محدودا. دع جانباً مسألة حصول ثورة، أو انتفاضة شعبية، بأجندة ومطالب سياسية كبرى.
وعليه، كانت الخلاصات التي وضعت على طاولة صناع القرار في واشنطن ولندن وبرلين وغيرها أن النظام، وأجهزته الأمنية والعسكرية التي تسيطر على كل مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، سوف يتجاوز الاضطرابات التي تعم المنطقة، وقد استمرت هذه الخلاصات في توجيه السياسات الغربية، خصوصاً الأميركية، نحو سورية، حتى بعد اندلاع الثورة، وظل الاعتقاد قوياً أن النظام السوري سوف يتجاوز الأزمة، ويخرج منها سالماً.
وبعيداً عن ثورات “الربيع العربي”، مقارنة بجيرانها، كانت سورية تبدو مستقرة إلى درجة الركود. لبنان الصغير كانت تهزه الانفجارات الأمنية والانفلاتات المجتمعية، منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري. وكانت الدولة ما تفتأ تضعف لصالح قوى المجتمع المختلفة، حتى يكاد الإحساس بوجودها يختفي. أما في العراق، فقد كان الأمر أكثر سوءاً، عنف وتفجيرات ومليشيات وقتل على الهوية، وكانت الحكمة السائدة في جميع الأوساط، بما فيها السفارات الغربية في دمشق، وحرص النظام على تغذيتها، أن السوريين الذي شاهدوا ما حلّ بالعراق من فوضى بعد الاحتلال الأميركي قد تعلموا فضائل الاستقرار، ولو في ظل أكثر الأنظمة استبداداً في العالم. كان العامة والخاصة يردّدون المقولة الشهيرة المنسوبة إلى المتصوف الكبير أبو حامد الغزالي (توفي عام 1111م) “سلطان غشوم، ولا فتنة تدوم”.
كان ذلك الاستقرار المزعوم خادعاً، فالنار كانت تعتمل تحت الرماد، وعندما سنحت الفرصة حصل الانفجار، إنما بعنف غير مألوف. حتى إن العراق يبدو، اليوم، مستقراً، مقارنة بما يجري في سورية، كما تدل الأرقام المشار إليها سابقاً. أما لبنان الصغير، فيبدو أكثر قدرة على مواجهة تحديات البيئة المحيطة، كيف لا وقد نجا من التقسيم، في حين تبدو سورية اليوم مقسمة على أرض الواقع. كيف يكون هذا؟ وكيف تحوّلت سورية التي كان يحكمها أكثر الأنظمة قمعاً واستبداداً و”استقراراً” إلى دولة هشة، تصارع من أجل البقاء، والحفاظ على وحدة ترابها، وقد استبيحت أرضها وسماؤها وتناهشتها الدول والمليشيات، فيما لبنان الصغير الذي طالما تندّرنا على هشاشة نظام حكمه، وضعف دولته، وتسيّب قواه المجتمعية، يبدو أكثر تماسكاً واستقراراً؟
واضحٌ، بعد كل ما جرى، أن الاستقرار في سورية لم يكن سوى وهم مفروض بالقوة، يخفي وراءه فشلاً بنيوياً كبيراً، ويعاني من تصدّعاتٍ، كان يحجبها كم هائل من النفاق، في تشخيص الأمور، وتزيينها للداخل والخارج. في المقابل، ما بدا ضعفاً وفوضى في لبنان، مقارنة بالاستقرار الذي كانت تنعم به سورية، كان يؤشر، في حقيقة الأمر، إلى وجود ميزان قوى اجتماعي دقيق، يوفر آليات لإدارة الأزمات وضبط الصراعات، ويحول دون تفجر العنف، مع أن هذا الميزان لم ينشأ ويستقر إلا بعد حرب أهلية ضروس. وعليه، فإن الدكتاتوريات التي تبدو متماسكة تكون أكثر عرضة للتفسخ من النظم والمجتمعات التي تظهر انقساماتها جلية. بالمثل، قد تنتهي المجتمعات التي تبدو أقل ميلاً إلى استخدام العنف، نتيجة ظروف معينة، بالتحول إلى أكثر المجتمعات عنفاً. وفي وقت تتمكن فيه بعض الأنظمة من تحمل ضغوط سياسية واجتماعية واقتصادية، نتيجة مرونتها واستعدادها للتأقلم، فإن أنظمة أخرى تكون أكثر عرضة للتصدع والانهيار، عند مواجهة أبسط الضغوط، بسبب تيبُّسها وانعدام المرونة لديها.
الأنظمة الهشة هي التي تعيش حالة عداء سافر مع التحولات أو التغيرات أو الضغوط أو الاضطرابات الممكنة في بيئتها، وهي لا تجد في نفسها القدرة أو الكفاءة على مواجهتها. وباعتبار أنه من المستحيل عدم مواجهة أي من هذه الأمور على المدى البعيد، يتحول الوقت ليصبح العدو الأول لهذه الأنظمة، ما يعني أن عملية كسب الوقت تتحول، بحد ذاتها، إلى استراتيجية هدفها تحقيق البقاء أطول فترة ممكنة، لكن المصير، في النهاية، يكون محتوماً.
وبالنسبة للدول، هناك خمسة عناصر أساسية، تجعلها أكثر عرضة للتصدع والانهيار، هي: وجود نظام مركزي قوي، اقتصاد غير متنوع، ديون داخلية أو خارجية كبيرة، انعدام البدائل السياسية لنظام الحكم (بمعنى غياب التعددية وتداول السلطة وفضاء سياسي عام يشكل متنفساً للاحتقانات الناجمة عن الضغوط). وأخيراً، عدم وجود تاريخ من تجاوز أزمات سابقة. وإذا طبقنا هذه العناصر الخمسة على دول المنطقة العربية (ودول العالم في العموم) نجد أن الدول التي تبدو أكثر هشاشة وأقل استقراراً هي، في حقيقة الأمر، الأكثر تماسكاً واستعداداً للتعامل مع الأزمات والتغلب عليها. أما الدول التي تبدو أكثر قوة وتماسكاً، بفعل وجود نظام مركزي قوي، فيمكن أن تتعرّض للانهيار عند الصدمة الأولى.
هذا يعني أنه، بعد سقوط سورية التي كانت تنطبق عليها جميع الشروط الخمسة المذكورة، يبدو أننا أمام سلسلة من مرشحين أقوياء، تتقدمهم مصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المصدر : العربي الجديد