إنها مرحلة ازدحام التساؤلات الكبرى التي تحتاج الى العثور على إجابات واضحة ومحدّدة: من مع من؟ ومن ضد من؟ ومن يحارب من؟ في هذا «الزمن الروسي» في المنطقة. على أن العنوان العريض لهذه المرحلة هو التالي:
إنها الحرب على الإرهاب وحرب الإرهاب على محاربيه. ليست في الأمر هواية تلاعب بالألفاظ، بل هو تعبير عن واقع الحال. وحتى هذا العنوان تعدّدت توصيفاته، وألقابه «الحركية». فهناك الإرهاب التكفيري الذي «لا يهادن»! ويقدّم نفسه على أنه الحل الوحيد لمشكلات المنطقة وما أكثرها. وهناك الإرهاب «المعتدل»! وفق «التقويم» الذي أطلقه الرئيس باراك أوباما، وهو يعلن دعمه لما أسماه «المعارضة المعتدلة» في سورية، وردت عليه موسكو (عبر وزير الخارجية سيرغي لافروف) بالتساؤل: هل يوجد «إرهاب معتدل»؟
والإرهاب التكفيري عاد الى بيروت ليضرب ليل الخميس – الجمعة، قلب الضاحية الجنوبية عبر قيام انتحاريين (وربما أكثر) بتفجير نفسيهما في شارع مكتظ بالسكان، فكانت حصيلة كارثية من الضحايا والجرحي أعادت الخوف الى اللبنانيين. فهل عادت التفجيرات الانتحارية بعد توقّف استمر أكثر من سنة؟ ومن هي الجهة التي ارتكبت هذا الإرهاب التكفيري؟ تنظيم «داعش» تبنى العملية.
وأيضاً، هل من علاقة بين هذه التفجيرات وما يجري في سورية؟
نكتب هذه السطور والأمور لم تتّضح تماماً في استثناء العدد الكبير من الشهداء: 45 ضحية، ومئات الجرحى وعودة مشاعر الخوف!
في استطاعة «داعش» أن يزعم أن نضاله الجهادي التكفيري يقف في جانب، والعالم كلّه تقريباً في جانب آخر متعقباً تحركات هذا التنظيم الذي لا تزال قصة ولادته ونشأته شديدة الغموض. إذ كيف يمكن لجحافله أن تتنامى في هذا الشكل بعيداً من أعين المخابرات المنتشرة في المنطقة، إلا إذا كان هذا التنظيم ربيب بعض هذه الأجهزة، وتصدق المعلومات التي تتحدث عن اتهامات في هذا الشأن عما يجري في سورية؟
ما هو معلن، أن المقاتلات الروسية تقوم بطلعات يومية وتقصف مواقع لـ «داعش»، فيما تعلن مصادر أخرى أن القصف الروسي يستهدف فريقاً من المعارضة السورية كالجيش السوري الحر وغيره، وقبل التدخل الروسي كان ما يعرف بقوات التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة، يعلن عن قصف «داعش» في مختلف المناطق السورية، لكن من دون نتائج محددة وواضحة. ووسط الأجواء، برز جيش النظام في سورية من جديد وكأن المقاتلات الروسية تؤمن له الغطاء الجوي، فسجل إنجازات عسكرية ضد «داعش» و «جبهة النصرة».
ويمكن الإشارة الى المعلومات التي كشف عنها الصحافي الأميركي المعروف ديفيد إغتاتيوس، في «واشنطن بوست»، حيث اعتبر أن ما تشهده سورية حالياً «حرب بالوكالة» بين الأطراف المتنازعة، إضافة الى مواجهات عسكرية بين روسيا والولايات المتحدة عبر استهداف المقاتلات الروسية مواقع «داعش» ومواقع أخرى تعود الى مقاتلين تعلن المصادر الأميركية أنها تتولى»تدريبهم وتمويلهم». هكذا تسرب واشنطن معلومات تتحدث عن اتساع رقعة الصراع تصعيداً ودموية، على حدّ تعبير دوائر الاستخبارات الأميركية المركزية.
على أن كل هذه التطورات الدرامية طغى عليها حادث آخر، ألا وهو تفجير الطائرة الروسية المدنية وسقوطها بركابها الـ232 في صحراء شبه جزيرة سيناء، بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ بثلاث وعشرين دقيقة. وكان لافتاً في هذا الحادث، احتمال السقوط بتفجير قنبلة فيما كان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، يعلن «التريث في إطلاق الأحكام في انتظار نتائج التحقيق والعثور على الصندوقين الأسودين»، مضيفاً: «هذا الأمر قد يستغرق بضعة شهور»!
وبعد ساعات قليلة على الحادث الذي شهد تغطية إعلامية واسعة جداً في العالم، وصل الرئيس السيسي في زيارة عمل الى لندن. وتقول مصادر مطلعة واكبت المحادثات لـ «الحياة»، أن الاجتماع بينه وبين رئيس الحكومة ديفيد كامرون، كان «عاصفاً» ولو بهدوء، حيث وجه الرئيس المصري العتب الى رئيس الوزراء البريطاني قائلاً: «كان عليكم إبلاغنا كسلطات مصرية رسمية بهذه المعلومات التي تملكونها، والأمر ينطبق على الولايات المتحدة والرئيس أوباما، باعتباره أول من أعلن أن الطائرة الروسية سقطت بفعل تفجير قنبلة».
حادث تفجير الطائرة الروسية وجّه أكثر من رسالة وفي غير اتجاه: إلى مصر بأن في الإمكان اختراق كل التدابير الأمنية في مطاراتكم، ولذلك فالموسم السياحي أصيب في الصميم، كما تم إلغاء الحجوزات كافة التي كانت معدّة لأعياد رأس السنة الشهر المقبل. كما أن التفجير إصابة مباشرة لمواقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد أراد الإرهابيون أن يتحدّوا قرار موسكو التدخل في سورية.
ومع أن التحقيقات لا تزال جارية لكشف بعض التفاصيل، تأكد أن قنبلة زرعت في إحدى الحقائب التي وضعت على متن طائرة الموت، وأمكن إيصال القنبلة عبر موظف (أو أكثر) يعمل أو يعملون في قسم الأمتعة في مطار شرم الشيخ الدولي. وفي كل حال، الحادث أوضح بعض حقائق الأمور: فالعملية الأمنية ليست فردية من هذه الدولة أو تلك، بل إن الأمن مسألة لا تتجزأ، وهو عملية مترابطة الأطراف. وبتعبير آخر، فبعد «عولمة الإرهاب» لم يعد كافياً أن تلجأ كل دولة بمفردها لاتخاذ الإجراءات الأمنية لتكون في منأى عن التفجيرات الأمنية!
لذلك وفي ضوء حادث إسقاط الطائرة الروسية، لا يكفي أن تعتبر روسيا أنها عمدت الى ضبط الأمن في مطارتها لتعلن أنها في مأمن من العمليات الإرهابية، بل إن التنسيق بين مختلف مطارات العالم هو الذي يجب أن يُعتمد.
والسؤال الذي طرح مع مجموعة كبيرة من الأسئلة: هل ما جرى من إجراءات لبوتين في سورية هو ما عرّض الطائرة الروسية لما تعرضت له؟
ربما كان من المبكر التوصّل الى استنتاجات نهائية، لكن تدخل المقاتلات الروسية (أكثر من 50 طائرة من مختلف الأنواع) كانت وستكون له نتائج في أكثر من اتجاه سلباً وإيجاباً. ولأن المساعي الهادفة الى السلام المفقود في المنطقة لا يجب أن تتوقف، فمن المقرر استئناف اجتماعات «فيينا – 2» اليوم السبت.
كان يقال قديماً: «كل الطرق تمر في روما»، ثم «كل الطرق تمر في جنيف»، واليوم وفي التداول السياسي، نحوّل الشعار الى «كل الطرق يجب أن تمر في… فيينا» الرابضة على ضفاف الدانوب الأزرق.
وقد نشأ سجال حول اجتماع «فيينا – 2»، بخاصة حول مشاركة إيران، وتركز على كيفية الوصول الى الحل السياسي للأزمة السورية، وهناك خلاف شديد حول مصير الرئيس بشار الأسد في المرحلة المقبلة، وسط إصرار المملكة العربية السعودية على استبعاده كلياً، فيما محور موسكو – طهران ينادي بترك مصيره للشعب السوري في انتخابات تُجرى لاحقاً.
والأكيد أن وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، لن يشارك في فيينا لأنه سيكون مع الرئيس الإيراني حسن روحاني في جولته الأوروبية، وقد انهالت المناشدات العالمية لعدم إفشال اجتماع فيينا، لا سيما من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، الذي ناشد جميع الأطراف عدم مقاطعة هذه الاجتماعات «الهادفة الى إيجاد مخرج لهذا الكابوس المتمثّل بما يجري في سورية».
وكان طبيعياً أن يلقي موضوع الإرهاب بظلاله على قمة الرياض الرابعة بين الدول العربية ودول أميركا اللاتينية برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وأوضح بيان القمة الختامي رفض أي تدخّل في شؤون دول المنطقة الداخلية. كما جرى تأكيد قمة الرياض لضرورة اعتماد الحل السياسي للأزمة السورية وحلّ سائر النزاعات بالوسائل السلمية مع التركيز على الإشارة الى إيران… وحسن الجوار! ويُذكر هنا تصريح جواد ظريف بعيد إعلان التفاهم على «الملف النووي الإيراني» مع الدول الغربية بقوله: «إن إيران تؤمن بأن الجار قبل الدار». وننتظر دول المنطقة وضع هذا الشعار موضع التنفيذ.
وبعد…
فالبيان الذي صدر عن «فيينا – 1» تضمّن العديد من العبارات التي تُستخدم للمرة الأولى، ومن ذلك «أن وحدة سورية واستقلالها وسيادة أراضيها وهويتها العلمانية أمر أساسي»، والدعوة الى «أهمية الإبقاء والحفاظ على المؤسسات السورية». ولعلّ في هذا البند إشارة واضحة الى عدم انهيار الدولة والمؤسسات على غرار العراق، وهذا ما طرح السؤال: من الأهم: الأسد أم سورية؟
وفي بند آخر: «ضرورة حماية حقوق السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية»، وفي هذا إشارة الى عدم التمييز الذي يخضع له بعض السوريين في بعض المناطق من تحيّز «الداعشيين» وشركائهم.
يبقى السؤال الذي يريد كثر معرفة الإجابة عنه: هل ما يجري من محاولات تتّصل بالواقع السوري يقرب من حلّ الأزمة وبلوغها النهاية؟
يجيب أهل الحل والربط: أبداً، على الإطلاق، بل على العكس. فستشهد سورية وربما بعض الدول الأخرى في المنطقة، مزيداً من الأخبار السيئة قبل التوصّل الى ما يشير الى بعض التفاؤل ولو الخجول، بالانتقال الى «سورية جديدة».
سورية جديدة موحدة؟ ليس بالضرورة، تأتي الإجابة، وثمة حديث عن «سوريات» قد ينتهي إليها الصراع الدائر بكل أبعاده.
لقد قلنا إن السلام في سورية «قد يكون أكثر تعقيداً من الحرب المستعرة فيها» («الحياة» السبت، 31/10/2015)، وإضافة الى ذلك فالتفجير الإرهابي المروّع في برج البراجنة في الضاحية الجنوبية من بيروت، جرح ثخين في الجسد اللبناني المثقل أصلاً بالجراح.
فهل وصل «داعش» الى قلب العاصمة اللبنانية؟ وهل هو الرد على التدخل في الحرب في سورية؟
انتهى المقال ولم نجب عن التساؤلات: من مع من؟ ومن ضد من؟ ومن يحارب من؟
المصدر : الحياة اللندنية