مقالات

ميشيل كيلو – الإرهاب في طور جديد

هل يمثل ما ترتكبه داعش من جرائم مرعبة ردّها على ما يلوح من هزائم تنزل بها في العراق وسورية، وتحسبها لما ستواجهه من تحديات؟ وهل هو المرحلة المقبلة من نشاطٍ قد تحرم فيه من حالها الراهنة كـ”دولة”، وتجبر على العمل في ظروف مختلفة تماماً عن ظروفها الحالية التي تتيح لها خوض معارك عسكرية، تتطلب قوى كبيرة تقاتل على جبهات محددة ومعروفة، منظمة عسكرياً، جيشاً يخوض معارك كالتي تخوضها جيوش الدول؟

إذا كان هناك من تفسير سياسي لعمليتي بيروت وباريس، فإن التفسير الصحيح لا يعقل أن يتجاهل انتقال قوى داعش العسكرية من العمليات الحربية، أو شبه الحربية التي يشنها مقاتلون كثيرون، إلى عمليات أخرى، مختلفة، يقوم بها أفراد متفرقون، أو تحققها تجمعات أفراد صغيرة، يعيش أعضاؤها خارج أراضي الدولة “السابقة”، في المجتمعات المطلوب مهاجمتها، أو يسربون إليها من خارجها، تشرف عليهم، تخطيطاً وتنفيذاً، قيادات محلية، تنشط في البلدان المستهدفة، أو توجههم من الخارج، وتمدّهم بما يلزمهم لضرب هدف كبير في موقع محدد، أو أهداف عديدة في أماكن متفرقة، في وقت واحد، فلا يشبه ما يقومون به ما سبق للقاعدة أو غيرها من تنظيمات الإرهاب أن مارسته في أي وقت ضد أي بلد أو جهة، بل يعتبر تطوراً نوعياً لعمليات الإرهاب، سواء من حيث كثافة المشاركين فيه، أو في ما يتعلق بنوعية الأهداف التي تتم مهاجمتها، أو طريقة استهدافها التي يجب أن تنصبّ، في جميع العمليات، على إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر بالمواطنين، لهز ثقتهم بحكوماتهم ونظمهم ومؤسساتهم السياسية والأمنية، وتسعير غرائزهم وردود أفعالهم المذهبية والدينية، وتقويض ما في مواقفهم من تسامح تجاه “الآخر” من مواطنيهم، ذوي الأصول المغايرة لأصلهم، أو الأديان المختلفة عن دينهم، مع ما يفضى إليه ذلك من إثارة شكوكٍ لدى كل جماعة بغيرها، ومن تطرفٍ وعنفٍ، يمكن استغلاله كإطار قيمي، يتحكم بتفكير كل الجميع وسلوكه حيال الجميع، ويسمّم الحياة العامة، ويدفع الأحزاب والحكومات إلى اعتماد نهج يقيد الحريات، ويقوّض النظام الديمقراطي، ويوجِد شروطاً ملائمة لفرز المواطنين، وزيادة قابليتهم للانخراط في الإرهاب.

هناك دلائل حول انتقالنا إلى حقبة جديدة من الإرهاب، تستند إلى تنظيم لم تعد تحمله “دولة”. لذلك، لن يبقى علنياً، مثلما هو حاله، منذ أعلن عن إقامة ما أسمتها داعش “الدولة الإسلامية”، وسيتبنّى السرية في كل ما يتعلق بأعضائه ومهامه، وسيقلع عن إنجاز أعمال وواجباتٍ، كانت تلزمه بتركيز جهوده على مجال داخلي خاضع له، حيث كان عليه ضمان الاستقرار فيه، فضلا عن حدّ من الخدمات ضروري، لكسب ولاء رعاياه، بسبب مهامها “دولة”، كانت داعش مجبرة على إيلاء الخارج أهمية تالية، وربما محدودة في خططها وعملها. أما في حقبته المقبلة، فسينصب اهتمام التنظيم بمعظمه على الخارج. وبما أن مئات الإرهابيين أرسلوا أو تسللوا إلى البلدان العربية والأجنبية، فالمتوقع أن تتصاعد الأعمال الإرهابية تصاعداً غير مسبوق ضد بلدان عديدة، في ذهابٍ إلى زمن أشد كثافة ودموية وعنفاً من زمن القاعدة، فيما يتصل بعدد من سينخرطون فيه، أو الأهداف التي ستتم مهاجمتها، والبلدان التي سيستهدفها الإرهاب.

بهجومي بيروت وباريس اللذيْن أصابا تجمعات أبرياء من المدنيين، تدخل حرب الإرهاب ضد العالم وحرب العالم ضد الإرهاب طوراً جديداً خاص السمات، شروطه مغايرة لما سبق من إرهاب القاعدة. لن تنجح مواجهة هذا الطور المختلف، إلا بقدر ما يطوّر العالم تقنيات وأساليب لمواجهته، تتفق ونوعه وخطورته التي ستترتب على شنه حرباً كونية فريدة في حجمها ومداها ونتائجها، بما أن أتباعه وأعضاءه ينتمون لمختلف الأمم والشعوب، وأن قدرتهم على اختراق مجتمعاتهم ستكون كبيرة إلى درجةٍ، تتطلب تدابير استثنائية لمواجهتهم، منها تعزيز حرية المواطنين، ورفع سويّة التأهيل المهني للقضاء وأجهزة الأمن والشرطة، وابتكار طرق جديدة في إدارة الصراع ضد الإرهاب. أخيراً، أن تفترض مواجهة الوضع بناء تعاون دولي ومراكز قيادة وسيطرة عابرة للدول والحدود، لها طابع ثابت ومستقل، كما يفترض وضع مدونة قانونية دولية، لا تتوفر اليوم للعالم ولمنظماته الشرعية.

يقف العالم على مشارف حقبة مختلفة من التحديات والمخاطر، سيفشل حتماً في التصدي لها، إن أقنع نفسه بالتعاون مع نظم مستبدة وإرهابية، كالنظام الأسدي الذي لعب دوراً معروفاً في إيجاد الأجواء الضرورية لدخول داعش إلى سورية، وتعاون معها نيفاً وعاماً ونصف العام ضد الجيش الحر والمواطنين السوريين الذين طحنهم بعنفه وحلوله الأمنية، ودفع قطاعات واسعة منهم إلى الانفكاك عن رهانها الديمقراطي، والالتحاق بالإرهابيين وتنظيماته.

لن تنجح محاربة الإرهاب بالسكوت عن إرهاب النظام الطائفي وإرهاب إيران المذهبي، ولن تنجح الحرب إن صار ضحيتها الناجين السوريين من إرهاب الأسد وحلفائه المحليين والدوليين، ما دام الإرهاب ليس حكراً على فئة أو مذهب بعينه، ولا مفر من اعتبار كل من يستخدم القوة ضد شعبه إرهابياً، كائناً ما كان اسمه، أو كانت صفته. 

المصدر : العربي الجديد 

زر الذهاب إلى الأعلى