مقالات

نجاتي طيارة – 13 نوفمبر الباريسي وما بعده

إنه 11 سبتمبر/أيلول الفرنسي، هكذا أراده الإرهاب: أكبر عدد من الضحايا، أكبر ضجة ممكنة. بجانب واحد من أكبر ملاعب باريس (ستاد دوفرانس الذي شيد قبل 17 عاما بمناسبة بطولة كأس العالم)، حيث كان الرئيس فرانسوا هولاند حاضرا، مسرح وقاعة احتفالات ضخمة (باتاكلان)، مطعم للوجبات السريعة في ضاحية سان دينيس الشهيرة، المواطنون العابرون في شارع شارون وسط الدائرة 13، ومطعم آخر كثير الرواد في الدائرة نفسها، وذلك كله ليلة “الويك إند” التي ينتشر الباريسيون في ظل خريفها الجميل.

الصدمة الكبيرة مطلوبة ومعدة بإتقان، ما دفع الرئيس الفرنسي إلى وصفها بالعمل الحربي، وهو كذلك حقا، وككل عمل أو هجوم حربي، لا يمكن أن يكون نتيجة قرار فرد أو مزاج مجنون، على الرغم من كل الجنون والآلام التي تصاحبه. إنه سياسة متكاملة، لها مكوناتها، وهي وليدة مقدمات وتاريخ لا يجوز إغفالها في أي عمل حربي مضاد ومطلوب ضد داعش الذي أعلن مسؤوليته عن الجريمة.

ولقد بدأ داعش نفسه، كفرع من “القاعدة” في أواخر عام 2013، وأعلن كدولة إسلامية في الشام والعراق في 2014، ثم تمدد “خلافة إسلامية” في 2015، بينما بدأت أميركا حربها الجوية ضده منذ 2014، وفق خطة أعلن الرئيس بارك أوباما أنها تحتاج ثلاث سنوات على الأقل. ثم فاجأ بوتين العالم بتدخله العسكري في سورية، منذ أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، بذريعة الحرب ضد داعش والإرهاب، أما النظام السوري فادعى الحرب ضد الإرهاب، منذ طالبته أول مظاهرة سلمية بالتغيير والإصلاح.

لكن داعش الذي نشأ وترعرع ونما في إطار كل تلك الحروب ضده، فقد استمر وتمدد، بعد أن انسحب جيش النظام أمامه، وسلمه تدمر عاصمة البادية، أما الهجوم الجوي الروسي المستمر منذ أكثر من شهر ونصف، فهو، واقعيا، ووفق كل المراقبين، ينفذ التقسيم بين سورية المفيدة للنظام وسورية الخاضعة لدولة الخلافة السوداء.

فلماذا، إذن، يضرب داعش اليوم في باريس؟ ولماذا لا تكون معركته ضد مدّعي الحرب ضده، من نظام سوري وحملة أميركية وتدخل روسي، بينما كانت الضربات الفرنسية محدودة ضده حتى اللحظة؟ ولماذا اختار داعش تاريخ 13 نوفمبر بالذات، وهل لذلك علاقة بأنه عشية الاجتماع الدولي في فيينا بشأن المعضلة السورية؟

كل تلك الأسئلة مشروعة، وما يدفع إلى طرحها أكثر، الصعود والتضخم المشبوه لداعش، والمشبع بأسرار أجهزة المخابرات المحلية والدولية وأساليب عملها الخفية والشائعة، وهو ما ينسجم مع استراتيجية النظام السوري، المعروفة بإصرارها، منذ بداية الثورة السلمية ضده، على وصمها بالفتنة والإرهاب. وكان مكشوفاً عمله، بمساعدة الراعي الروسي، على إفشال مؤتمر جنيف 2، بسبب إصراره على أولوية استهداف الإرهاب، قبل أي بحث في التغيير الديمقراطي والاتفاق على هيئته الحاكمة.

أما لماذا في فرنسا بالذات؟ فربما كان رهان مخططي داعش على إمكانية إحداث صدمة في قلب أوروبا القوي والكبير. صدمة يمكن أن تزعزع أفضل أصدقاء الشعب السوري، وتؤدي إلى شقاق في داخل المجتمع والدولة الفرنسية، التي ما زالت تنهج أقوى سياسة خارجية، مؤيدة لثورة الشعب السوري، وتقف بحزم ضد أي دور للرئيس المجرم في مستقبل سورية.

ولذلك كله ممكنات برزت في الفترة الماضية، فأعطت دلائل على توجه تيارات داخل اليمين الفرنسي إلى الدعوة حول إعادة تأهيل الأسد والتحالف مع دوره المفيد ضد الإرهاب، واستثمار الخلاف حول تلك السياسة الخارجية في الصراع الفرنسي الداخلي. وإذا كان ذلك شديد الوضوح لدى ممثلة اليمين المتطرف ماري لوبين، فقد طالب به زعيم حزب الجمهوريين، ألان جوبيه، أما الرئيس السابق والمرشح القادم، نيكولا ساركوزي، فلم يتوان عن المطالبة، في مناسبة الهجمات الأخيرة، بتغييرات كبرى، وخصوصا في السياسة الخارجية، على الرغم من كل حرصه على طابع الوحدة الوطنية. ومن الواضح أن ذلك يعني تغيير موقف فرنسا تجاه الأسد بالضبط في هذا الخصوص.

متناسياً، في ذلك، تاريخ مواقفه البهلوانية الماضية التي توجها استقباله الملكي الذي وفره للأسد عام 2008، بعد أن أوشك نظامه على السقوط حينها، وإثر الحصار العالمي له إثر اغتيال رفيق الحريري، وهو أمر كان من أبرز أدواره المفضوحة في صناعة الإرهاب. 

يُضاف إلى تلك الرهانات إمكانية إثارة الشقاق داخل المجتمع الفرنسي، والمتعلق بالصراع مجدداً حول مسألة المهاجرين والاندماج، والذي أضافت له موجات اللاجئين وقوداً جديداً، وسط أزمات بطء الاقتصاد وتضخم البطالة، ومع جاهزية متوفرة لانتشار فوبيا الإسلام ضمن أوساط وفئات اجتماعية معينة. ولذلك تاريخ مشهود، لم يكن الإحراق الجديد لأحد مخيمات اللاجئين في كاليه شمالي فرنسا، إلا دليلا ممكناً على توفرها.

لكن الممكن الآخر، يكمن بالتأكيد في محاولة التأثير على الاجتماع الدولي في فيينا، والذي كان جدول أعماله مخصصاً لتعريف المنظمات الإرهابية، فبالصدمة الكبرى، وبالشقاقات التي يمكن أن تحدثها هجمات باريس، سيكون موضوع الإرهاب طاغياً على أي بحث في المسألة السورية، وهو ما كان دوماً صلب استراتيجية النظام السوري وحلفائه، بدءاً من نظام قيصر روسيا إلى نظام ولي الفقيه، ومن لف لفهما.

وإذ يبدو مبدئياً أن المجتمع الفرنسي ودولته قد تلقيا الصدمة بقلب شجاع، وبتضامن وطني كبير، كما أن البيان الصادر عن مؤتمر فيينا لم يخضع لطغيان مسألة الإرهاب، على الرغم من غموض موقفه من رأس النظام السوري، فإن الصراع ما زال، وسيبقى مستمراً حتى يتم الخلاص، ليس من الإرهاب ونتائجه المباشرة، بل من أسبابه العميقة وصانعيه، وأولهم النظام السوري وحلفائه، وذلك إذا أريد لما بعد 13 نوفمبر أن يكون مختلفاً عما قبله حقا. وعلى الأقل، احتراماً وتقديراً لأرواح الضحايا الأبرياء (الـ 129 المعدودين حتى مساء 14 نوفمبر) الذين سقطوا نتيجة الهجمات في باريس، ولنهر الدماء الغزير الذي ما زال مستمراً منذ حوالي خمس سنوات في سورية الجريحة.

المصدر : العربي الجديد 

زر الذهاب إلى الأعلى