في أعقاب أحداث باريس الدموية، ستقام مجالس عزاء، وقد يحضر، أحدها، من تتوفر لديه الفرصة، من أهلنا. فمجالس العزاء والترحم على روح الموتى من معارفنا وجيراننا واجب تربينا عليه. حيث نصافح أهل الراحل أو الراحلة، نقرأ الفاتحة، ثم نجلس مع المعزين، بصمت، أشد وقعا من أعنف التفجيرات.
تتخلل الصمت أحاديث متقطعة، مع الجالسة يسارا أو يمينا، همسا، لئلا يخدش حزن وألم أهل الراحل. هناك، غالبا، في مجالس العزاء، مسار للحديث شبه منظم، تكرس عبر تاريخ المآتم لدينا، ولا اعتقد أن من سيحضر مأتم باريس، سيخرج عليه. يبدأ الحديث، عادة، بسؤال خاص ينتقل منه المتسائل إلى العام. كيف رحل الفقيد؟ ما هي تفاصيل الأيام الأخيرة ؟ ما هو تأثير ذلك على أهله وأطفاله، إن كان لديه أطفال؟
تفاصيل، يتم تبادلها، بشكل شذرات، قد تكون صغيرة، إلا أنها تبقي الراحل بأحسن صورة، في ذاكرة من يعرفه، وحتى من لا يعرفه، شخصيا، وحضر المأتم لسبب أو آخر. مسار أحاديث مجالس العزاء تقود، أيضا، ولكونها فعلا اجتماعيا ونفسيا متعدد الجوانب والمستويات، إلى الحديث عن مصاب الآخرين، تخفيفا لمصاب من نمضي لتعزيتهم، خاصة إذا كان الراحل بمقتبل العمر، وكان رحيله مفاجئا بلا مرض يهيئ الأذهان للرحيل المتوقع. أصدقاء الشهيد الفلسطيني طارق النتشة (18 عاما)، مثلا، اختاروا ألا يجلسوا في مجلس العزاء، بل نسجوا إكليلا من الزهور وقدموه، بمسيرة صامتة، إلى أمه وهي واقفة، على مقربة من بيت العائلة الذي سيهدمه الإسرائيليون، كعقاب جماعي للعائلة، بعد قتل ابنها.
هنا، اسمع صوت الشاعر عبد الرحمن طهمازي، متسائلا: “أأبكي/ أبكي/ أبكي؟”، أسمع، أيضا، رد جلجامش على سؤال صاحبة الحانة عن سبب حزنه: “كيف لا تذبل وجنتاي ويمتقع وجهي/ ويملأ الأسى والحزن قلبي وتتبدل هيئتي/ فيصير وجهي أشعث كمن أنهكه السفر الطويل/ ويلفح وجهي الحر والقر وأهيم على وجهي في الصحارى/ وقد أدرك “مصير البشر” صاحبي وأخي الأصغر… إنه أنكيدو صاحبي وخلي الذي أحببته حبا جما… فبكيته في المساء وفي النهار”.
متنفسا للهموم، لنبكي مصابنا سوية، بمجلس عزاء، بباريس.
رحيل أقارب وأصدقاء ومعارف. احتلال وتفجيرات وقتل عشوائي. يغادرنا من نحبهم إلى المدرسة أو العمل أو المقهى أو السوق فلا يعودون. أو تترصدهم أدوات القتل وهم جلوس ببيوتهم، فتتطاير سنوات العمر وأي أمل بالمستقبل.
في ذات يوم العمليات الإرهابية (إرهابية مادام ضحاياها من المدنيين مهما كان مرتكبها فردا أو منظمة أو دولة)، بباريس، حدث أمر مماثل ببغداد، لم يعره العالم أي أهمية ولم تفسح له مساحة ثوان ضمن نشرات الأخبار: “ارتفعت حصيلة التفجير الانتحاري الذي وقع داخل مجلس عزاء بمنطقة حي العامل إلى 17 شهيدا، و32 جريحا. حصيلة الضحايا مازالت قابلة للزيادة”. في اليوم السابق له، كان تفجير برج البراجنة بلبنان. وحصيلة الضحايا بازدياد. هكذا، تواصل الأمهات حضور مجالس العزاء وقلوبهن متكلسة بطبقات من حزن متراكم عبر السنين. حزن حولهن إلى كتل من لون الحداد، لا يغادرنه حتى في لحظات الفرح النادر.
أربع سنوات من مجالس العزاء بسوريا. أربع سنوات من العيش بالخيام. سبعون عاما، أو أزيد، من المآتم اليومية بفلسطين. حوامل يلدن عند الحواجز. جدار العنصرية يخنق الأنفاس. أطفال يحرقون قصفا وآخرون يحرقون في بيوتهم. علي سعد دوابشة (18 شهرا)، هاجم المستوطنون اليهود منزل عائلته في الضفة الغربية بقنابل حارقة. حرقوا الرضيع ثم كتبوا “انتقام” على جدران البيت.
أحمد مناصرة (12 سنة)، طفل أسير نراه في شريط فيديو يواجه التعنيف والترهيب والتهديد من ضابط مخابرات إسرائيلي ليعترف بأنه كان سيقتل إسرائيليا. فلسطيني، في مقتبل العمر، يقتل جهارا أمام الكاميرات، لأنه مشتبه به. تحالف دولي من 60 دولة يقصف المدن العراقية والسورية. البراميل المتفجرة لا يطفئها الفرات. الاغتيال المافيوسي تقترفه الدول العظمى عن مبعدة بواسطة الطائرات بلا طيار (الزنانة بالفلسطيني) حرصا على نفسية عسكرها. العمليات الخاصة تنفذ مخترقة السيادة الوطنية. مليون ضحية بالعراق منذ احتلاله وما من امل في الأفق.
بات الموت، في بلداننا، زائرا يقيم بيننا رغما عنا، حدثا، يوميا، مألوفا، إلى حد الابتذال في عاديته كما هو الشر الذي كتبت عنه حنة أرندت عندما حضرت محاكمة النازي العجوز إيخمان. لا يريد العالم الغربي رؤية شروره. فالقتلة لا ينظرون بعيون ضحاياهم، ولقطات أشلائهم المبعثرة تحمل تحذيرا كي لا تؤذي مشاعرهم. أي طفل يكبر في هذه الأجواء، وماهي أحلامه؟
منذ أربعة عقود كتب مؤيد الراوي، الذي غادرنا أخيرا، عن احتمالات الوضوح: “أهو الليل الذي لفني بعميق همومه/ أم هي بركة قلبي أسقطوا فيها حجرا. أهو الصباح الذي سجنوه؟ أم هو الوضوح الذي أسقطوا جناحه؟”.
في فسحة الحياة المتقلصة يوميا، في أجواء يدافع فيها أهلنا عن بقائهم، ما هي احتمالات الرؤية بوضوح؟ يقول الكاتب الفلسطيني عاطف أبو سيف، وهو يأكل مع الزنانة، بينما تواصل إسرائيل قصفها غزة: “أنا سُجِنت ثلاث مرات واستشهد أخي؛ لكنني في الكتابة أسعى إلى الأنسنة المحضة، إلى التقاط معنى الحياة من بين الركام”. ولأننا، جميعا، نريد لأطفالنا ان يواصلوا الحياة، أن يفتحوا للغد أفقا من زهور الصحارى، أقول: في مجالس العزاء نحن لا نعاتب، ولا نلوم، ولا نبرر. لنتفادى الموت، موتنا والآخر، تعلمنا كيف نضمد الجراح.
المصدر : القدس العربي