مقالات

ناصر الرباط – الهويات المترنّحة: سوريون في أوروبا

عندما شخّص أمين معلوف هوياتنا بالقاتلة (وهو كان يقصد اللبنانيين بالدرجة الأولى)، كان تشخيصه مبنياً على تاريخ طويل من الهويات المتصارعة على بقعة أرض صغيرة، لعلّها لم تتجاوز مجموعة الجبال الساحلية في سورية ولبنان وبعض الهضاب والمدن الداخلية في سورية والعراق والأناضول، التي توطّنت فيها أقليات عرقية ودينية ومذهبية على مر القرون. تشخيص معلوف صحيح، فالازدحام الهوياتي الذي شهدته سورية الكبرى على مدى تاريخها، لا يعادله أي تنوّع في أي منطقة أخرى من العالم المتوسطي.

 

هذا التراكم الهوياتي، الذي ضمّ أكثر من عشرين هوية عرقية أو مذهبية واضحة ومحددة، كان أحياناً مبعث ثراء ثقافي عندما تعاملت الأعراق والمذاهب باحترام وتناغم مع بعضها البعض. لكن عندما كانت القوى الإقليمية أو العالمية في حالة صراع، فالتنوع الهوياتي كان يتحول أداة مثلى من أدوات هذا الصراع، وتطفو إلى السطح كل أردان التخالف والتمايز والكراهية والاستثناء التي تكون عادة مستكينة في الأوقات الحلوة والعيش الرغد.

أعادت الهويات المتنوعة في سورية اليوم، تأكيد استعدادها لأن تتحوّل وحوشاً إقصائية واستئصالية في الحروب الأهلية (والإقليمية والدولية) المدمّرة في كل أرجاء الوطن السوري. وعادت رواسب البغضاء والتمييز إلى التعبير عن نفسها وبقوة في الخطابات الأهلية السورية، سواء كانت خطابات أفراد أو تعبيراً عن قناعات جماعات بعينها، وفي السياسات المتبعة من النظام السوري ومناوئيه. وعادت إلى السطح ذكريات صراعات قبلية ومذهبية وعرقية، بعضها يعود إلى ما قبل ألف عام وبعضها متخيّل، لكي تؤجج مشاعر عنيفة وتحدّد مواقف وتتسبّب بمذابح اليوم انتقاماً مما أصبح في ذمة التاريخ أو استتباعاً لفعل انقضى منذ قرون، لكنه، في عرف محازبيه، لم ينتهِ.

وجاءت التدخلات الخارجية لكي تذكي هذه التمايزات العرقية والدينية وتركب موجتها لتحقيق غايات تكتيكية واستراتيجية على حساب سورية وطناً وأرضاً وشعباً. واستجابت مجموعات عدة، خائفة أو مخوّفة أو جاهلة أو متزمتة، وطوت صفحة التآلف والتناغم وانطلقت بعيداً في مجال القتل والتدمير والتهجير. صارت الهويات قاتلة ثانية، وبدموية وكراهية شديدتين. لكنها أيضاً، وبفعل اقتتالها العبثي، ابتدأت بالتضعضع وظهرت على سطحها، الذي يمكن أن يبدو متماسكاً إذا ما اكتفينا بسماع خطابها عن نفسها، تشقّقات هيكلية ومبدئية.

هذه الهويات القاتلة ليست في طريقها الى الاندثار، لكنها اليوم تترنح تحت ضغط العنف المتمادي والمستمر الذي لا يعرف له مستقراً وهدفاً. وهي أيضاً تتفكك بفعل انفضاض أعداد كبيرة من السوريين عن الوطن الأم واندياحهم في كل الاتجاهات، في تغريبة هائلة لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية.

هذا ما أعاينه يومياً في ركوبي قطاراً بين مدينتين صغيرتين في ألمانيا. السوريون كثر ومن خلفيات متنوّعة، وهم في جلّهم من المهاجرين الجدد الذين فتحت لهم الباب، موارباً بالحقيقة، «ماما مركل».

وهم يتكلمون باللهجات السورية كلها: الحلبية والإدلبية والساحلية والريفية والدمشقية والحمصية، وبالكردية أيضاً، وبالألمانية أحياناً. وتتراوح نساؤهنّ في ملبسهنّ بين المنقبة والمحجبة حجاباً قبيسياً والمرتدية الجينز الضيق مع جاكيتات مفتوحة وغندرة مكتملة، وكل ما بينهما. رجالهم بين الملتحي شرعياً والملتحي تموّضاً والمشعث الذي لم يحلق ذقنه منذ أيام وحليق الذقن ناعمها الذي يغطي عينيه بنظارات «رايبان» الشمسية أو بمقلداتها الرخيصة.

كلهم مزوّد بهاتفه النقال، وبعضها من آخر الموديلات. وجلّهم يتحدث على هاتفه بالعربية عن مواضيع تتعلق بالهجرة والسكن ومدارس الأطفال. الأطفال كثر ومتقاربون بالعمر، ما يذكر بالطفرة السكانية الهائلة التي مرت بها سورية، ما وضعها في لائحة الدول الأسرع نمواً سكانياً في العالم. هؤلاء الأطفال كأمثالهم في كل مكان، كثيرو الضجيج والحركة، حشريون لا يهدأون، وأهلهم بين المستحي من ضوضائهم والزاجر بطريقة سورية لا تستسيغها الأذن الألمانية.

لا تكفي هذه الصورة العامة لتبيان ما قصدته بالهويات المترنحة. فالمظهر العام للسوريين في القطارات ومحطاتها ما زال يوحي بأنهم حملوا هوياتهم المختلفة معهم. لكنني بتنصّتي عليهم من دون أن أظهر أصلي العربي، سمعت نتفاً من أحاديثهم تدل على أن التزمت الهوياتي ابتدأ يفقد الكثير من مبرراته ويتحلل بحيث تختلط الهويات، وقد تتداخل وتتحابّ أحياناً. فمرة كنت جالساً أمام فتاة في عشرينياتها بالحجاب الشيك والكعب العالي فوق بنطال ضيق، تتحدث على هاتفها النقال آي – فون ٦ باللهجة الحلبية مع من يبدو أنه حبيبها. لم تلق بالاً إليّ واستمرت بالحديث بصوت مسموع وهي تستجيب لكلمات غزل، وقالت لحبيبها: «طعم بوساتك على تمّي» بلهجة رقيقة. ثم بعد لحظات، غضبت منه وقالت بلهجة أكثر حزماً: «ما تحلفلي بالصليب». هذه قصة حب مستحيلة أو شديدة الصعوبة في سورية، لكنها صارت ممكنة في ألمانيا.

مرة أخرى جلس مقابلي زوج من الطلاب السوريين الحديثي النعمة والمحدثي المظهر: محبّان يمسكان يداً بيد ويتكلمان في شؤونهما الخاصة، هو باللهجة العلوية الواضحة بقافها المشددة وهي بزقزقة حمصية تمط بعض الأحرف الصوتية. لا أدري ما إذا كانا من طائفتين مختلفتين، لكنهما قطعاً من منطقتين مختلفتين تصارعتا في السنوات الأخيرة، وقد أتيا إلى ألمانيا ليتلاقيا ويتحابّا.

لكن الملاحظة الأروع كانت عندما ركبت القطار مع مجموعة من أربعة طلاب سوريين في أواخر مراهقتهم: ثلاثة شبان بلحى على الموضة وفتاة بحجاب شرعي حول رأسها وبنطال ضيق.

كانوا يتكلمون ويمزحون سوية. ثم هاتفت الفتاة شخصاً آخر وتحادثت وإياه بلهجة قروية شامية مطعمة بالألمانية الملفوظة بمطّ أحرفها على الطريقة السورية. وكانت تبلغ أصدقاءها ما يقوله محدثها الذي أخبرها شيئاً عن واحد من رفاقها، «هو بيعرف يحكي بس ما بيعرف يقرا». ضحك الجميع وأجاب الفتى المعني: «وشو يعني، بعرف أحكي عربي بس ما بعرف إقراه. أنا كردي». ضحك الجميع ثانية ولم يعلق أحد على هذه البديهية التي تفوّه بها صديقهم، والتي ما زال النظام وبعض المعارضة يرفضونها، لكن هؤلاء الشبان الأربعة السوريين حلّوها.

هل في هذه الحوادث المتفرقة بصيص أمل ما؟ لا أدري، على الأقل بالنسبة الى الداخل السوري. لكنني متأكد أن السوريين المتغربين حديثاً سيتجاوزون هوياتهم العتيقة التي خذلتهم وسيكونون في المهجر، على الأقل بالنسبة الى الجيل الأول، سوريين فقط.

المصدر : الحياة 

زر الذهاب إلى الأعلى