أرجّح، شخصياً، التقدير الذي ساد مؤخراً لدى بعض مراقبي سلوك «داعش»، في أعقاب عمليات الإرهاب الخارجية التي طالت الطائرة الروسية فوق سيناء (إذا صحّت مزاعم تنظيم الدولة، بالطبع، وكذلك تفجير برج البراجنة في بيروت، وصولاً إلى الذروة في عمليات 13 تشرين الثاني (نوفمبر) التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس.
وأعني بـ«المراقبين»، هنا، أولئك الباحثين والمحللين الذين لا يكتفون باجترار التنميطات المكرورة حول «داعش»، ولا يقرأون أفعال التنظيم من خلال معطيات السطح وحدها؛ خاصة حين تبلغ الوقائع الإرهابية مستوى غير مسبوق من العنف الوحشي والعشوائي، فيُختم على العقل التحليلي، ولا تطفح سوى التعميمات الأسهل، والأشدّ سطحية بالتالي، ويُحجب على الأبصار فلا ترى سوى المشهد الهمجي الدامي.
وأمّا الرأي الذي أعنيه هنا، وأنضوي في كثير من فرضياته، فهو ذاك الذي يقول إنّ لجوء «داعش» إلى عمليات الإرهاب الخارجية، في هذا التوقيت تحديداً، وضمن فترات متزامنة، هو اضطرار إجباري أو يكاد، أكثر من كونه خياراً حرّاً أو مرتاحاً. وهو، استطراداً، كرّ هجومي كما تقول المؤشرات؛ ولكنه يتمّ ضمن شرط أوّل بالغ الدلالة، يتخبط بين التكتيك العابر والستراتيجية ذات الأمد الطويل: الفرّ، من قلب الكرّ، والدفاع بمصطلح الهجوم. ولا تُفتقر الأسباب الكثيرة، العسكرية واللوجستية والعقائدية/ التعبوية، التي تسند هذا الرأي؛ بل ثمة فقر مدهش، في المقابل، بصدد الأسباب التي تدفع إلى النقيض، خاصة تلك التي لا تخدش إلا المظهر الخارجي لعمليات «داعش» الإرهابية الخارجية الأخيرة.
عسكرياً، ورغم نجاحات طفيفة ومتفرقة أحرزها «تنظيم الدولة» مؤخراً، فإنّ المؤشر الإجمالي لا يبدو أنه يسير في صالح «داعش»، في سوريا كما في العراق؛ لاعتبارات لا تقتصر على أيّ تشديد ملموس في الضربات الجوية للتحالف الدولي، أو حتى دخول روسيا على خطّ هذا الخيار في إنهاك التنظيم؛ بل ترتبط، أيضاً، باضطراره إلى فتح جبهات قتال برّية عريضة ومتباعدة: مع فصائل الجيش الحرّ في ريف حلب تحديداً، والوحدات الإيرانية و«حزب الله» في ريف حلب ومحيط مطار كويرس، والجيش العراقي وقوات البيشمركة في مواقع عديدة. وهذه حال ترتّب على التنظيم أعباء اقتصادية وتمويلية، من حيث تقلص الموارد النفطية بادئ ذي بدء؛ كما أنه، إزاء انحسار الغنائم في ميادين القتال، مضطرّ إلى الإنفاق مباشرة على تأمين الذخائر والإمدادات المختلفة. وأمّا عقائدياً وتعبوياً، فإنّ الانتقال إلى العمليات الخارجية، خاصة إذا اتسع نطاقها الجغرافي، ليس كفيلاً بإحراج «القاعدة» أمام أنصارها، أو حتى تحجيم نفوذها وسطوتها وجاذبيتها، فحسب؛ بل، كذلك، تصعيد حوافز التجنيد لدى صفوف الأتباع الجدد، وصبّ المزيد من الزيت على ما يلتهب في نفوسهم من مشاعر سخط واحتجاج وإحساس بالحيف.
وبهذا المعنى، وفي عنصر جدلي مقابل ليس من الحكمة غضّ النظر عنه؛ قد لا تقتصر غايات «داعش» العميقة، من وراء هذه النقلة إلى عمليات الإرهاب الخارجية، على ما قد يبدو هدفاً مباشراً، جلياً، أو منطقياً منتظَراً: أي الضغط، في عقر الدار وعبر المدنيين تحديداً، على الدول التي تحارب «داعش» هناك، في سوريا وفي العراق؛ بما قد يجبرها على المراجعة، وتخفيف الضربات أو حتى الانسحاب من التحالف. وإذا كانت الولايات المتحدة وبريطانيا في رأس اللائحة، قبل فرنسا؛ فإنّ استهداف باريس نهض على إمكانية تجنيد الانتحاريين وسهولة تحرّكهم في أوروبا الغربية، بين بلجيكا وألمانيا نحو فرنسا.
وليست تلميحات رئيس الوزراء البريطاني، دافيد كامرون، إلى إحباط عدد من العمليات الإرهابية على الأرض البريطانية؛ أو نجاح «داعش» في تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء، إذا تبيّنت صحة المزاعم حوله؛ والعمليات الانتحارية في ضاحية بيروت الجنوبية، التي قد تكون الأعقد حتى اليوم في المواجهة بين «داعش» و«حزب الله»؛ إلا وقائع ملموسة لمقدّمات إرهاب مماثل قد تشهده أية عاصمة غربية.
بمعزل عن هذا الهدف الواضح، إذاً، فإنّ وِلْ مكانتس، مدير «مشروع معهد بروكنغز حول علاقات الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي»، على سبيل المثال، يحذّر بشدّة من أننا لا نعرف الكثير، بعدُ، عن أغراض «داعش» من عمليات الإرهاب الخارجية هذه، ويجب أن ننتظر اتضاح جوانب أخرى لكي نصل إلى يقين ما، متكامل ما أمكن. وبالفعل، بالمقارنة مع هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2011؛ كان الاعتقاد البسيط يوم ذاك قد تركز في مسألة الثأر من الولايات المتحدة واستهدافها في قلب نيويورك. فيما بعد، عند العثور على مذكّرة سرّية، لعلها واحدة من أهمّ وثائق «القاعدة» الداخلية، اتضح أنّ أسامة بن لادن كان يبحث عن هدف أكبر وأهمّ وأدسم: استدراج الجيش الأمريكي إلى الخارج، وإلى مناطق انتشار واسعة، كانت أفغانستان والعراق مسرحاً لها في نهاية المطاف؛ بما يتيح لـ«القاعدة» مسرح عمليات مثالياً، فيستقطب الجهاديين من كلّ حدب وصوب، ويخلق «حملات صليبية» أشبه بكرة ثلج دائمة التدحرج بين الغرب والعالم الإسلامي (الأمر الذي انساق إليه جورج بوش الابن، على نحو شبه حرفي!).
وحتى تتضح تلك الأغراض الخافية، إذا كانت في حسابات «داعش» حقاً، فإنّ بعض الأغراض الأخرى قد تحققت لتوّها بالفعل، أو هي تتحقق كلّ يوم؛ وعلى رأسها، بالطبع، تلك الحال الهستيرية من الرهاب ضدّ الإسلام عموماً، وضدّ العرب خصوصاً، ثمّ اللاجئين السوريين بصفة أخصّ. ولقد تابعنا ذلك المسلسل السوريالي الذي اقترن بحكاية العثور على جواز سفر سوري قرب جثة أحد انتحاريي ستاد فرنسا، في ظاهر باريس: إنه سوري، لاجىء، انتحاري، مشارك في العمليات الإرهابية؛ قالت الرواية الأولى، الشعبية والشعبوية التي انتشرت كالنار في الهشيم.
بل هو جواز سفر مزوّر، وما أسهل تزوير هذا الجواز تحديداً، بدليل نجاح الصحافي الهولندي هارالد دورنبوس في استصدار جواز سفر سوري، لكنه يحمل صورة رئيس وزراء هولندا؛ قالت رواية ثانية. كلا، بل وجود جواز السفر السوري قرب جثة الانتحاري هو محاولة تضليل من جانب «داعش»؛ حسب الاستخبارات الألمانية. وأخيراً: مصدر فرنسي، على صلة بالتحقيقات في هجمات باريس، أفاد بأنّ الجواز يعود لجندي سوري موالٍ للنظام، قُتل قبل أشهر في محافظة إدلب؛ حسب وكالة الأنباء الفرنسية…!
غرض آخر لعله تحقق، أو يتحقق منذ سنوات، بثبات وانتظام؛ هو تعزيز ـ وليس تراجع أو انكماش! ـ إمكانية استيلاد المزيد من نماذج عبد الرحمن أبا عود، المغربي الذي يُقال اليوم إنه العقل المدبر وراء هجمات باريس الإرهابية؛ أو أقرانه، أمثال عمر اسماعيل مصطفاوي، وسامي عميمور، والأخوين إبراهيم وصلاح عبد السلام، وبلال حدفي، وحسناء آيت بولحسن… وهذه إمكانية تشتغل عليها «داعش» أولاً، بالطبع، لأنّ التجنيد المباشر جزء لا يتجزأ من الفلسفة التنظيمية للمنظمة الإرهابية؛ ولكن، أيضاً، لأنّ التجنيد غير المباشر تتكفل بإنتاجه مناخات الهستيريا إياها، خاصة حين لا يكون المجنّد بحاجة إلى ما هو أكثر من إجراء تمييز هنا، أو سلوك بغضاء هناك… وما أكثرها، في مجتمعات الغرب هذه الأيام!
ويبقى، غنيّ عن القول، إنّ آخر ما كان يؤرّق هؤلاء الإرهابيين، ذلك الاعتبار الجوهري الذي يخصّ الطراز الآخر من الإرهاب، الذي يمارسه بشار الأسد/ حسن نصر الله/ قاسم سليماني، والميليشيات الطائفية والمذهبية والمتشددة على اختلاف منابتها وعقائدها، ضدّ الشعب السوري. وسواء أكانت «داعش»، في عمليات الإرهاب الخارجية، تكرّ أم تفرّ؛ فإنّ هذا الإرهاب الآخر ما يزال يواصل الكرّ، على قدم وساق!
المصدر : القدس العربي