بعد اجتماعات فيينا وغزو روسيا بلادنا، صار من الضروري أن نطرح على أنفسنا أسئلة، منها: هل خرجت قضيتنا السورية من أيدينا إلى الحد الذي يضيّع مكاسب الجيش الحر، ويضعنا على الطريق إلى ما بعد الحل السياسي العادل الذي نريده؟
وهل وجدت الدولتان الكبريان، أميركا وروسيا، مدخلا إلى حل يختلف عن مدخل وثيقة جنيف واحد، وهو بالاسم “الهيئة الحاكمة الانتقالية”، وعن آليات ونتائج الحل الديمقراطي الذي تقترحه؟ وهل تخلت الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي عمّا أقرته في جنيف في يونيو/حزيران من عام 2012، لصالح شيء مختلف، هو “توافقات فيينا وتوصياتها”؟. ما معنى دعوة وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، إلى تصنيف المعارضة لتحديد الإرهابية منها، والدعوة التي وجهتها بلاده إلى لقاء معارض جديد في موسكو؟.
وهل يلتقي مع نهج موسكو إعلان واشنطن جهلها بهوية المعارضة التي ستحضر مفاوضات السلام مع النظام؟. أخيراً، هل أخطأ الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، بامتناعه عن المشاركة في خطة ولجان مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، وبتمسكه بوثيقة جنيف وآلية قرار مجلس الأمن الدولي 2118 للحل السياسي؟
بداية: توافق المجتمعون في فيينا على نقاط تسع، اعتبروها نوعاً من إطار مبادئ، يعني قبوله من الطرفين السوريين المتصارعين تأسيس أرضية مشتركة بينهما، يمهد تطبيقها لإيجاد أجواء من الثقة، يستحيل تفاهمهما على الحل بدونها. ومع أن “فيينا” تعتبر وثيقة “جنيف 1” وقرار مجلس الأمن رقم 21118 مرجعية للتفاوض، وتالياً للحل السياسي، فإنها لا تورد، تصريحاً أو تلميحاً، مما يشير إلى أن “الهيئة الحاكمة الانتقالية” أداة يبدأ الحل بتراضي الطرفين على تشكيلها، مهمتها نقل سورية إلى الديمقراطية بضمانة الخمسة الكبار.
بعد نقاطها التسع، تقرر تفاهمات فيينا تكليف الأمم المتحدة (دي ميستورا) بجمع ممثلي الطرفين، الحكومة والمعارضة، في عملية سياسية، تفضي إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، يعقب تشكيلها (من بشار الأسد بطبيعة الحال) وضع دستور جديد، وانتخابات تتم تحت إشراف الأمم المتحدة وبموافقة الحكومة، وبمشاركة جميع السوريين، بمن في ذلك “المغتربون”، حسب نص فيينا.
علمانية أم ديمقراطية؟
سأتجاوز الدولة العلمانية التي يقرّر النص إقامتها في سورية بعد الحل، ولن أتوقف عند الفارق الكبير بينها وبين الدولة الديمقراطية التي طالب بها السوريون، لأقول إن إجرائيات مسار فيينا التطبيقية، بمسمياتها المختلفة والمختصرة، سبق لها أن وردت بتفصيل ودقة أكبر في مذكرة حول مستلزمات الحل ومراحله، قدمها وفد “الائتلاف” إلى المبعوث الأممي السابق، الأخضر الإبراهيمي، في مفاوضات مؤتمر جنيف الثاني، غير أن النظام رفضها جملة وتفصيلاً، وأصر على أن الحل يكمن في محاربة الإرهاب، ممثلا بالجيش الحر والمعارضة الديمقراطية بوصفهما كيانه الرئيسي الذي تستهدفه بتركيز خاص هذه الأيام غارات طيران روسيا الحربي، وتصنيفات لافروف للإرهابيين في سورية.
هذه نقطة لا بد من الوقوف عندها، لوضع أيدينا على ما هو قائم من فروق بين مبادئ فيينا وما تعتمده المعارضة من رؤية للحل ومبادئه، وما يمكن أن يتمخض في الواقع عن هذه الفروق، وإلى أين يمكن أن تقود بنواقصها، وما يراد بها، ليس فقط بالنسبة لبشار الأسد ونظامه، بل كذلك بالنسبة إلى الانزياح الواضح عن وثيقة جنيف، الذي يبدو في الظاهر محدوداً ومقبولاً، لكنه قد يتحول إلى هوة سحيقة في البحث عن أشكاله التطبيقية التي ستتعين بموازين قوى، دخلت روسيا بكامل قوتها إليها، يسبقها إعلان عن تصميمها على تغييرها. ومع أننا لا نستطيع تحديد الملامح الواقعية لهذا التغيير، فإن ملامحه تبدو جلية في أهداف روسيا السورية، القائمة في حدها الأدنى على أوضاع تمكن النظام من احتواء المعارضة، وفي حدها الأعلى، على شطب الجيش الحر والمعارضة السياسية المتحالفة معه، من معادلات القوة والسياسة.
وفي الحالتين، لا “جنيف”، ولا استجابة لما أعطاه لشعب سورية من حرية ونظام ديمقراطي، بل هجانة سياسية، تضع قابليها من المعارضين في حضن استبداد متجدّد، دمر مجتمعنا، عدوه الرئيسي، وقتل قطاعات واسعة من شعبنا أو طردها من وطنها، سيحتوي ذلك الصنف من المعارضين الذين يقبلون القراءة الروسية لوثيقة فيينا التي ستكون أسوأ بكثير من نصوصه المعلنة، فلدى الروس قراءة خاصة للحل، دولياً كان أم محلياً، هي التي أفشلت جنيف وستفشل فيينا، في حال خالفت ما يريدونه لسورية، ومن تسويات مع الأميركان والأوروبيين على المستوى الدولي، مما لا يرتبط بعلاقة الشعب السوري مع النظام الأسدي، وإنما يتفرع عن مصالح ومشكلات كونية متنوعة جداً ومزمنة، متنازع عليها بقوة مع واشنطن والدول الغربية، لكن قبول الحل السياسي ونمطه يتوقف على معالجتها بما يلبي مصالح روسيا من جهة، وأطراف متصارعة معها، تستطيع بدورها تخريب الحل، بعضها دولي أو إقليمي وبعضها الآخر عربي، فإن لم تجد هذه العقد المتشابكة جداً من المصالح المتضاربة والإرادات المتصارعة حلاً توافقياً مقبولاً من الجميع، فشل حل فيينا السياسي، أو تأجل الحل عامة، أو غدا تحقيقه ضرباً من الاستحالة، واستمر الصراع في سورية، وتم إلقاء وثيقة فيينا إلى سلة المهملات، وأخلت مكانها لوثيقة أخرى، تعبر عن موازين القوى التي ستكون قد شرعت تحكم العلاقات بين المتصارعين الكبار، دولياً وإقليمياً، كما يتم، منذ نيف وشهر، رمي أجزاء مهمة ورئيسية من وثيقة جنيف إلى هذه السلة بفضل وثيقة فيينا.
الفشل والمعوقات
يضع ما سبق يدنا على نقطة مهمة، تتعلق بمعوقات، يرجح أن يفضي تفعيلها المحتمل في أي وقت إلى فشل نمط الحل الذي اقترحته وثيقة فيينا، ولها مصادر ثلاثة، أتحدث عنها فيما بعد، بعد التوقف قليلاً عند النقطة التالية: بينما انصب جنيف بوثيقته، وباللقاء الذي ترتب عليه في فبراير/شباط من عام 2013 على الشأن السوري، على علاقة الشعب بالنظام والبديل المقترح بعد رحيل الأسد، المؤكد بقرار من مجلس الأمن الدولي يفسر معنى “الصلاحيات التنفيذية الكاملة”، يقول إنها صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء السوريين التي ستنتقل حتماً إلى “الهيئة الحاكمة الانتقالية”، جاعلة وجودهما على رأس السلطة نافلاً، ولا لزوم له، بمجرد قيامها.
هذا التركيز على القضية السورية دون غيرها من قضايا ومشكلات دولية وإقليمية وعربية متداخلة معها، هو الذي دفع كتلة “الائتلاف” الرئيسية إلى اتخاذ قرارها بالذهاب إلى جنيف 2، الذي أحبطه الروس، بحجة أن وثيقته أنتجتها أوضاع ميدانية، لكنها تغيرت، وأن الحل يجب أن ينطلق من الوقائع، وليس من الوثائق. اليوم، ومع فيينا ووثيقته، تدور الأمور، بدرجة رئيسية، حول المصالح والصراعات الدولية التي تترجم إلى خلافات شديدة حول الحل المقترح للمعضلة السورية، وتأخذ صورة صراع حول تقاسم البلد والمصالح، كغنائم متنازع عليها. هذا الفرق مهم إلى درجة تحتم مطالبة “الائتلاف” بتوضيح القراءات المتباينة التي أملت وثيقة فيينا، وترجمتها المحتملة في المفاوضات بيننا وبين النظام، بالنظر إلى أن هذه القراءات هي التي ستترجم مصالحها ومطالبها، التي يجب أن نعرفها بدقة، وأن يكون لنا دور في جعل أصحابها يترجمونها بطرق تخدم الحل الذي يريده شعبنا.
هذا عمل علينا إنجازه عبر اتصالات نجريها مع جميع الأطراف، وقراءات صحيحة لمواقفها، أي لمصالحها، وإلا مرر خصومنا ما يريدونه، ونحن في غفلة من أمرنا. في هذا السياق، لا يجوز أن ننسى حقيقة أن جنيف كان سوري الطابع، عطلته الخلافات الدولية، وفيينا دولي الطابع، ومن المرجح أن تعطله هو أيضاً، إلا إذا أجبرنا الروس والإيرانيين، بدعم نوعي وكثيف من إخوتنا العرب وأصدقائنا الإقليميين والدوليين، على تقديم قراءة لمصالحهم، تلبي مطالبنا، وهذا احتمال ضعيف بالنسبة لروسيا، ومستحيل بالنسبة لإيران. هل نبادر إلى تركيز عملنا على الوصول إلى مثل هذا الدعم الذي سيساعدنا على تحقيق أهدافنا، من دون إغلاق باب الحوار مع موسكو، آخذين في الاعتبار أن واشنطن ليست “ابنة عمنا الربعي”، ومصالحها لا تتفق مع ما نريده لبلادنا، وأنها تتلاعب بنا منذ نيفٍ وأربعة أعوام، ويمكن أن تضحي بنا في أية صفقة دولية؟
أما المعوقات فتنبع جميعها من أولوية المشكلات الدولية على المشكلة السورية، مشكلتنا كشعب مع نظامه:
يخضع الحل في سورية لصراعات وخلافات التيارات والأجنحة المنضوية في السلطة الإيرانية، التي ترى جميعها في تحقيق مطالب الشعب السوري تهديداً استراتيجيا لمصالحها، ولمكانتها في بلادنا، التابعة اليوم لها، وتريد لأي حل سياسي أن يبقيها تابعة لها.
بقول آخر: يلعب الموقف الإيراني من المسألة السورية دوراً كبيراً في توحيد تيارات السلطة، ويرجع جزء من تشدد إيران حيالنا إلى خوفها من انفراط عقد نظامها، تحت وطأة ما سينشب بين تياراته من صراعات، في حال وافقت حتى على حل وسط سوري. أرجح أن تفعل إيران المستحيل لفرض حلها، العسكري، ولتنفيذ خططها السورية التي تعتبر العمود الفقري لحضورها ونفوذها، في المشرق خصوصاً، وبلادنا العربية عموماً، والمرتكز الذي ستواصل منه معركتها لإخضاع الخليج وإكمال سيطرتها على الوطن العربي.
ويخضع الحل في سورية لمصالح روسيا وصراعاتها مع أميركا والدول الغربية، وهي معقدة إلى أبعد الحدود، ومن المستبعد أن تتنازل الدول الغربية فيها، بالنظر إلى ضعف روسيا وارتفاع سقف مطالبها، وقدرة الغرب على إنهاكها وزيادة تورطها المكلف في سورية. ما لم تتنازل الدول الغربية، فإن روسيا ستربط الحل في سورية بها أكثر فأكثر، مما سيدفع الغرب الى التشدد، إلا إذا قررت قبول حل يراعي وضعها الصعب، يفتح الباب أمام تفاهم لاحق حول خلافاتها مع بقية العالم، وهي كثيرة، وهذا مستبعد على الأرجح، لأنه سيفقدها الورقة السورية، ولأن بوتين يمارس سياسات مغامرة، يريد بها الظهور بمظهر الطرف القوي القادر على فرض ما يريده، بينما سيرى في أية خطوة تصالحية يقوم بها في سورية تنازلاً مجانياً، ولا مبرر له، خصوصاً وأن الحل سيأتي في هذه الحال بغير قراءته.
إرهاب النظام الأسدي
ويخضع الحل في سورية للبلبلة السياسية والعسكرية التي ترتبت على قرارت أوباما إعطاء الحرب ضد الإرهاب الأولوية على إزالة جذره الحقيقي: نظام الاستبداد الأسدي في سورية، والنظام المذهبي /الطائفي في العراق، وحزب الله، التابع لقلعة الاستبداد الأخطر في المنطقة والعالم، ايران الملالي. واليوم، يدخل الروس على الخط، ويسعّرون هوس الإرهاب على المستوى الدولي، وفي علاقاتهم مع المسألة السورية، ليس لأنهم ضده، بل لدفع العالم إلى قبول قراءتهم حلاً سياسياً، يبقي على جذره الأسدي/ الاستبدادي في بلادنا ومنطقتنا، ويجدده، بحيث يعزّز معركته، ومعركة إيران ضد بلدان الخليج العربي.
لا بد من جعل تغيير النظام الأسدي وإسقاط الأسد أولوية دولية، وإلا ستفشل الحرب ضد الإرهاب، كما فشلت حرب أميركا خلال العام الماضي، على الرغم من أنها ألقت طيرانها إلى المعركة، وتحالفت مع حزب العمال الكردستاني وأتباعه في سورية، وسلحتهم ومولتهم. ومع ذلك، فإن قتالها، بمعونة هؤلاء، ضد الإرهاب قد يستمر فترة طويلة جداً، من دون القضاء عليه.
لا بد من نهج يقوم على فضح العلاقة بين النظام الأسدي والإرهاب، وتحديد صحيح لأولويات المعركة ضدهما، ينطلق من كون الأسدية هي الأصل والإرهاب هو الفرع، ويدفع دولياً وإقليمياً وعربياً لتطبيق ما قاله الرئيس الأميركي، باراك أوباما، عقب لقائه نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، حول استحالة هزيمة الإرهاب، ما دام بشار الأسد في الحكم، وما دامت جرائمه هي التي تدفع آلاف السوريين إلى الالتحاق بـ “داعش” أو التعاطف معها. من دون دمج المعركة ضد الإرهاب بالمعركة ضد الأسد وبالعكس، لن يكون هناك حل سياسي قادر على دحر الأسد وعصاباته وكسر شوكة الإرهاب، الذي تغذّى من حلوله الأمنية أمس، ويتغذّى اليوم من غزو روسيا بلادنا، وقتلها شعبنا، وشطب الجيش الحر والقوى الديمقراطية من معادلات الحل فيها، لاعتقادها أنها ستجبر بذلك العالم على قبول الأسد، بعجره وبجره، بوصفه الخيار الوحيد المتاح.
وفي نهاية كل أمر، سيتوقف تحقيق الحل العادل على اقتناع روسيا بأن معركتها خاسرة حتماً، وبأنها لن تستطيع إنقاذ الأسد ونظامه، وأن عليها البحث عن حل يلبي مصالحها، ليس لأنه ينقذ الأسد، بل لأنه يتفق مع ما يطالب به الشعب السوري، صديقها التاريخي الذي باعته لمجرم يقتله بثلاثين من الفضة، في صفقة هي الأسوأ في تاريخ روسيا الحافل بالصفقات السيئة.
المصدر : العربي الجديد