لم تقتصر النقاشات في قمة مجموعة العشرين التي عقدت في مدينة أنطاليا التركية الأسبوع الماضي على جدول أعمالها المخصص للملفات والشؤون الاقتصادية، بل تعدته إلى نقاش الملفات السياسية الضاغطة، خاصة فيما يتعلق بالثورة السورية، الإرهاب، واللاجئين على هامشها.
وفي اللقاءات الثنائية التي عقدت في كواليسها، والتي كانت امتدادات للحوارات الثلاثة التي جرت في فيينا قبل ذلك بأيام، بحيث بتنا في الحقيقة أمام قمتين أنطاليا 1 الاقتصادية، وفيينا 4 السياسية.
فيما يتعلق بالقمة الاقتصادية، قامت تركيا وخلال عام تقريباً أي منذ تسلّمها الرئاسة في كانون الأول/ ديسمبر الماضي بالتحضير بشكل كبير ومنظم للقمة التي حملت عنوان العمل الجماعي من أجل النمو الشامل والقوي، وكان اللافت هذه المرة مشاركة مجموعات تمثل فئات أو شرائح المجتمع المختلفة ضمن نظرة الرئيس أردوغان وتركيا للإنماء الشامل والرفاهية التي يجب أن تستهدف كافة الشرائح دون تمييز.
وهكذا تم ولأول مرة تشكيل مجموعة W20 المهتمة بتحسين أوضاع المرأة وإنهاء كافة أشكال التمييز والإجحاف بحقها، هذا إلى جانب مجموعة الـ20Y المهتمة بالشباب ومساعدتهم على الانخراط في الحياة الاقتصادية المحلية والدولية، إضافة إلى مجموعة أعمال العشرين، مجموعة العمالة العشرين، مجموعة المجتمع المدني العشرين، مجموعة مراكز الأبحاث العشرين.
أنطاليا 1 سارت كما ينبغي ودون خلافات أو تجاذبات، وتم التوافق على معظم المشاريع والأفكار التي تم مناقشتها خاصة فيما يتعلق بالسعي لزيادة نسبة نمو الاقتصادي العالمي في حدود 2 بالمائة خلال خمس سنوات ما يسمح بإضافة 2 مليار دولار للاقتصاد العالمي.
كانت الإثارة الحقيقية في النقاشات السياسية، والتي كانت بمثابة فيينا 4 أي امتداد لحوارات فيينا الثلاث السابقة مع غياب فرنسا وايران واستمرار مراوحة واشنطن في دور الوسيط مع ازدياد الإحباط واليأس من إمكانية تغيير الذهنية الروسية البوتينية وتصاعد وتيرة التنسيق التركي السعودي لتعويض غياب الدور المهم لباريس، كما لاقتراب الرياض أكثر فأكثر من القناعات والرؤى التركية تجاه سورية بشكل خاص والمنطقة بشكل عام.
عوّضت روسيا غياب إيران، وامتزجت الفظاظة والغطرسة الروسية بالعجرفة البرود واللؤم الإيراني، وهكذا استغل بوتين تفجيرات باريس، كما غموض إعلان فيينا للسعي من أجل إعادة تعويم نظام الأسد واعتباره عنصرا مركزيا في محاربة تنظيم الدولة والإرهاب وخرج الرئيس الروسي عن طوره للتغطية على فشل عملياته في محاربة داعش، أو بالأحرى عدم تركيزه على محاربة التنظيم بل كسر المعارضة السياسية والعسكرية للخروج من فضاء جنيف 1 إلى ظلام منتدى موسكو حيث المعارضة المدجنة تحت سقف النظام.
وبلغت وقاحة بوتين وفظاظته حد اتهام دول في مجموعة العشرين ومن الحاضرين على طاولتها بدعم تنظيم الدولة ومساعدتها في تجاهل ليس فقط للبيئة الحاضنة والمنتجة لتنظيم الدولة التي أوجدها نظام الأسد وحلفاؤه في الحشد الشعبي العراقي والإقليمي، وإنما لحقيقة إفراج النظام وحكومة الحشد الشعبي عن معظم القيادات التي يتهمها بوتين بالإرهاب، كما بتسليم النظام للمناطق الشاسعة الحدودية خاصة مع العراق، بما في ذلك آبار النفط لداعش بينما تكفل زعيم الحشد الشعبي رسمياً وحركياً نوري المالكي بتسليم التنظيم مساحات واسعة في العراق، كي يقيم عليها دولتها بما في ذلك مستودعات هائلة من السلاح الأمريكي الجديد وغير المستعمل، وكل ذلك بعد فشل حشده وعرابيه في إنقاذ النظام من السقوط وللوصول إلى المعادلة التي يروج لها بوتين وحلفاؤه الآن الأسد أو تنظيم الدولة.
غياب فرنسا أوجد بالتأكيد فراغا كبيرا في الموقف الأوروبي المؤيد للثورة السورية، خاصة مع التماهي البريطاني مع الموقف الأمريكي، وعدم امتلاك ألمانيا أو أي من الدول الأخرى في أوروبا القديمة الشجاعة والجرأة لطرح موقف خارج الإطار أو التصور الأمريكي، غير أنه تم تعويض هذا الغياب بتمتين التنسيق والتفاهم بين تركيا والسعودية مع الحفاوة البالغة التي خص بها الرئيس أردوغان الملك سلمان لدرجة تقديمه حتى على الرئيس أوباما في بعض المراسم البروتوكولية بالقمة.
مقابل الغطرسة والفظاظة الروسية واستغلال تفجيرات باريس، للزعم أن لا غنى عن الأسد في محاربة داعش طرحت أنقرة موقفها بدعم كامل وغير محدود من الرياض والمتلخص في أن المشكلة تتمثل في فشل الحرب ضد داعش إن من قبل، وواشنطن أو موسكو ولم تكن أنقرة بحاجة لجهد كبير للإثبات أن روسيا لا تسعى أساساً إلى محاربة التنظيم، وأن 80 إلى 90 بالمائة من عملياتها وغاراتها استهدفت الجيش الحر المعارضة المعتدلة والمدنيين.
أما تجاه سياسة أمريكا فطرحت تركيا موقفها القاضي بفشل هزيمة التنظيم من خلال العمليات الجوية فقط، وأنه لا بد من قتاله برّاً، ولكن وفق استراتيجية منسجمة ناجحة ومدعومة دولياً، تقتضي دعم الجيش الحر، وعدم الاعتماد على إرهابين أو انفصاليين في مواجهة تنظيم الدولة لا يخفون تماهيهم مع الخطط الانفصالية لتحالف الأقليات الإقليمي والدولي أي الحشد الشعبي الإقليمي والدولي، وقبل ذلك وبعده لا إمكانية لهزيمة تنظيم الدولة طالما استمر الأسد في السلطة كونه يدعم التنظيم بشكل مباشر وغير مباشر، أيضاً ومبدئياً وأخلاقياً يشكل السبب الأساس لظهور التنظيم، والتنظيمات الإرهابية الأخرى بعدما فقد عديدون الأمل في وقف الجرائم الموصوفة، وإرهاب الدولة الذي مارسه الأسد وحلفاؤه في سوريا والعراق على حد سواء.
في غياب فرنسا تلقت تركيا تفهم دعم ولو ضمني وخجول من ألمانيا التي فهمت كما الاتحاد الأوروبي كمنظمة أن التدخل الروسي الفظّ والعنيف لا يستهدف تنظيم الدولة وسيؤدي إلى مزيد من تدفق اللاجئين على تركيا وأوروبا بشكل عام.
أمريكا احتفظت في أنطاليا أو فيينا 4 بموقف الوسيط، وإن بدت أكثر إحباطاً وتذمراً من الموقف الروسي المراوغ والمتلاعب، ورغم الحجج التركية السعودية الدامغة والواقعية، إلا أن الرئيس أوباما رفض إجراء أي تغيير جذري على استراتيجيته في مواجهة داعش تنظيم الدولة تمزج بين العمليات الجوية والأمنية وإجراء عملية الانتقال السياسي في سوريا بالتعاون مع روسيا وإيران على قاعدة أن من المستحيل أن يتم تحقيق هزيمة تنظيم الدولة أو وقف الحرب الأهلية – حسب تعبير أوباما الحرفي – في وجود الأسد في السلطة بعد كل الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري والتدمير الذي مارسه بحق البلد ككل.
التغيير الأهم في موقف أوباما بدا في الانفتاح النسبي تجاه الموقف التركي السعودي القائل بضرورة دعم الجيش الحرّ والقوي الإسلامية المعتدلة، وعدم السماح بكسرها أمام التغول الروسي الإيراني، والاقتناع كذلك بعدم إمكانية هزيمة تنظيم الدولة من الجو فقط حتمية القيام بعمليات برية، ولكن بالاستعانة، ولكن بقوى محلية جدية وأصيلة لا أمريكية، ولا حتى تركية، ودائماً على قاعدة عملية انتقال سياسي في سوريا دون الأسد طبعاً وتحسين البيئة السياسية أو إصلاح المسار السياسي في العراق، ولكن دون الوصول إلى حد التناقض الكامل مع ذهنية الحشد الشعبي لإرضاء إيران واستقطابها إلى العملية السياسية في سورية ولو بثمن تسليمها العراق أو إبقائها القوة المهيمنة فيه، طالما أن ذلك يجري ضمن القواعد والخطوط الحمر الأمريكية.
في كل الأحوال، لا أمل للحلف الأقوى الإقليمي والدولي في ربح المعركة، إنقاذ الأسد أو تمرير مخططاته التقسيمية الضيقة، وحتى مع الموقف البارد واللئيم ووالانكفائي للإدارة الأمريكية، ستظل الكتلة السورية العربية والإسلامية الأصيلة على ثباتها موقفها وحقها في الحرية الكرامة الاستقلال، والأهم أنها وحدها المستعدة الن ودائما لمواجهة وهزيمة تنظيم الدولة والأسد معا، وكما أقر أوباما نفسه على استحياء بأنه حتى لو قبل هو ببقاء الأسد فإن هذه الكتلة الأصيلة لن تقبل علما أن عنوانها العريض هو الجيش الحر بقواه المتنوعة والمتعددة والرياض وإسطنبول، وللتذكير فإن هذه الكتلة لا تستسلم ولا تنكسر ولا يمكن فرض أي تسوية في سوريا أو غيرها إلا بموافقتها ورضاها.
المصدر : عربي 21