لم تكن حادثة إسقاط تركيا، قبل أيام، طائرة عسكرية روسية، قالت أنقرة إنها اخترقت مجالها الجوي، إلا تعبيراً عن قرابة شهرين من التوتر المباشر بين البلدين، جراء الصراع السوري الذي يدخل عامه الخامس.
فمنذ بدأت الضربات الجوية الروسية في سورية، في الثلاثين من سبتمبر/أيلول الماضي، بهدف دعم نظام بشار الأسد، المنهك، وتركيا تشتكي من الاختراقات المتكررة من الطائرات الروسية الحربية لسيادتها، مهددة، غير مرة، بأنها سترد على تلك الخروق.
وبالفعل، كان أن أسقطت الدفاعات الجوية التركية، منتصف الشهر الماضي، طائرة استطلاعية بدون طيار، قالت أنقرة إنها روسية، في حين نفت موسكو تبعيتها لها، غير أن التَّماسَ الأخير بين البلدين، بعد إسقاط مقاتلتين تركيتين من طراز إف-16 طائرة سوخوي-24 روسية، ومقتل أحد طياريها، يمثل تصعيداً من نوع آخر، ذلك أن هذه الحادثة تمثل أول مرة تُسْقِطُ فيها دولة عضو في حلف الناتو طائرة روسية، منذ أكثر من نصف قرن، أيام الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو.
في السياق العام، تؤكد الحادثة الجديدة مخاوف كثيرين من أن روسيا وحلف الناتو، وتحديداً الولايات المتحدة، قد يجدان نفسيهما في حالة حرب، جرّاء خطأ غير مقصود في الأجواء السورية التي تعج بالمقاتلات الحربية لعشرات الدول، وتشن مئات الهجمات الجوية يومياً على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وفصائل المعارضة السورية.
ولهذا السبب، سعت وزارتا الدفاع، في كل من الولايات المتحدة وروسيا، إلى التنسيق بينهما في محاولة لتفادي صدامٍ غير مقصود بين مقاتلاتهما الحربية في الأجواء السورية، من دون أن يعني ذلك أنهما حققتا نجاحاً تاماً في ذلك، وهو ما يبقي احتمالات مثل ذلك الصدام قائمة. وتتضاعف تعقيدات المشهد، وذلك إذا ما أخذنا في الاعتبار أن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة يركز هجماته على “داعش” وجبهة النصرة، في حين أن أغلب هجمات روسيا تركّز على الفصائل السورية المسلحة التي تحارب نظام الأسد، بما في ذلك، المدعومة من الولايات المتحدة وتركيا وبعض الدول الخليجية.
ما سبق هو السياق العام لجانب من المعضلة الغربية-الروسية في سورية، أما في السياق الخاص، التركي-الروسي، فالوضع أكثر تعقيداً وحساسية. فبالنسبة لتركيا، تتجاوز المسألة الخروق الروسية لسيادتها، إلى العبث بالاستقرار التركي والحسابات التركية في المنطقة. فتركيا بنت استراتيجيتها في سورية، منذ سنوات، على ضرورة إسقاط نظام الأسد الذي ولغ في دماء شعبه، وجعل من سورية “دولة فاشلة”، بما جرّه ذلك من تداعيات سلبية على الاقتصاد والأمن القومي التركيين.
وتستضيف تركيا اليوم أكثر من مليوني لاجئ سوري، بشكل ضغط بشدة على اقتصادها وبنيتها التحتية، وتوازناتها الإثنية والمذهبية شديدة الحساسية. كما أن تفكك الدولة المركزية في سورية أعاد بعث آمال الأكراد، على حدود تركيا الجنوبية مع العراق وسورية، بإنشاء دولة كردية، الأمر الذي ترفضه أنقرة بقوة. وبالفعل، تواجه اليوم تمرداً متجدداً من حزب العمال الكردستاني، في تحد لاتفاق السلام الموقع بين الطرفين عام 2013. وتتضاعف التعقيدات التركية مع وضع “داعش” لها في قائمة أهدافها، وما التفجيران الانتحاريان في مدينتي سروج وأنقرة في يوليو/تموز وأكتوبر/تشرين أول، إلا إرهاصين لذلك. ومن ثمَّ، ليست تركيا في وارد تقديم تنازلات جيوستراتيجية للروس في سورية، من دون ضمانات حقيقية لمصالحها فيها.
وبالنسبة لروسيا التي بنت استراتيجيتها في سورية على دعم نظام الأسد، فإنها تريد، من ناحية، ضمان مكان لها على طاولة المفاوضات حول مستقبل سورية، في مسعى للحفاظ على مصالحها في ذلك البلد، خصوصا قاعدتها البحرية على البحر الأبيض في طرطوس. ويعد النفوذ الروسي في سورية آخر ما تبقى لها في الشرق الأوسط، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. وعملياً، نادراً ما تستهدف روسيا، بضرباتها الجوية، تنظيم الدولة الإسلامية، بل إن جُلَّ ضرباتها تنطلق من سعي إلى تعزيز موقف نظام الأسد عسكرياً.
فضرباتها التي طاولت أهدافاً في إدلب وقرب مدينتي حماة وحمص في غرب سورية، والتي لا يوجد لـ”داعش” وجود معتبر فيها، على عكس شمال سورية وشرقها، تجيء في سياق المحاولات الروسية منع المعارضة من السيطرة على غرب البلاد. ذلك أن من شأن سيطرة المعارضة على تلك المنطقة، وخصوصاً حمص، أن تشطر غرب البلاد الذي يسيطر عليه الأسد، ويفصل دمشق عن مدينتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين، حيث يوجد لروسيا فيهما منشآت عسكرية. وفي سياق آخر، يعد التدخل الروسي المباشر في سورية ورقة مساومة يلعب بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مع الولايات المتحدة والغرب، فيما يتعلق بالملف الأوكراني والعقوبات الغربية التي فرضت على موسكو جرّاء ذلك، فالعزلة التي حاولت الولايات المتحدة فرضها على بوتين تنهار الآن، ويسارع القادة الغربيون إلى طلب اللقاء به والتنسيق معه.
إذن، حسابات الطرفين، التركي والروسي متعارضة، إن لم تكن متناقضة في سورية، وهذا هو ما يؤجج من حدة التوتر بينهما، من دون أن يعني ذلك أنهما سيدخلان في حالة صراع مفتوح، على الرغم من التصريحات المتشددة من المسؤولين الروس، وحديثهم عن العواقب الوخيمة التي ستترتب على تركيا. فروسيا تعلم أن إعلان الحرب على تركيا سيعني صراعاً مباشراً مع حلف الناتو الذي تتمتع تركيا بعضويته، كما أن القيادة الروسية تدرك، أكثر من غيرها، التداعيات الاقتصادية الكارثية التي ستترتب على حرب مفتوحة مع دولة كتركيا، خصوصاً في ظل تراجع أسعار البترول الذي يعتمد عليه الاقتصاد الروسي، وفي ظل العقوبات الغربية الموجعة المفروضة عليها منذ عام 2014، جرّاء الأزمة الأوكرانية.
أيضاً، يحد مستوى العلاقات الاقتصادية التركية-الروسية، من قدرة الطرفين على تصعيد الخلاف بينهما، على الرغم من الوعيد الروسي بإعادة النظر فيها، فتركيا تحصل على حوالى 60% من احتياجاتها للغاز الطبيعي من روسيا، وهي السوق الثانية مع الصين التي تسعى روسيا إلى تعويض خسائرها فيهما، جرّاء العقوبات الغربية عليها. أيضاً، تعمل روسيا على مشروع بقيمة 12 مليار دولار لنقل غازها عبر البحر الأسود إلى تركيا، ومن ثمّ إلى أوروبا، لتجنب المرور عبر أوكرانيا. كما أن روسيا تساعد في بناء مفاعل نووي، لأغراض الطاقة السلمية في تركيا، بقيمة 20 مليار دولار، ولكلا البلدين استثمارات اقتصادية في البلد الآخر.
وتشكل نسبة السياح الروس في تركيا حوالى 12% من إجمالي أعداد السياح سنوياً، بعدد يتجاوز 3.3 ملايين. وعلى الرغم من إصدار روسيا تحذيراً لمواطنيها بعدم السفر إلى تركيا، بعد حادثة إسقاط المقاتلة الحربية، غير أن هذا التحذير لا يعتبر ذا قيمة في الفترة الحالية، ذلك أن هذا الوقت من العام ليس وقت سياحة.
لا يعني ما سبق أننا لن نشهد تصعيداً بين الطرفين، أو حتى حرباً بالوكالة في سورية، وعملياً بدأنا نشهد إرهاصات ذلك.
فتركيا تصر على عدم الاعتذار عن إسقاط المقاتلة الروسية، وبأنها ستستمر في حماية مجالها الجوي. أما بوتين فاعتبر ما جرى يمثل “طعنة في الظهر وجهها لنا متواطئون مع الإرهابيين”، وتلا ذلك إعلان موسكو إرسال نظام دفاع صاروخي متقدم إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية في محافظة اللاذقية لحماية طائراتها. وفي حين أن هناك تلميحات روسية ضمنية حول إمكانية لجوء موسكو إلى تعزيز موقف المقاتلين الأكراد المناوئين لأنقرة وتسليحهم، ثمة تلميحات تركية مقابلة بأن الرد التركي قد يكون بتقديم أسلحة نوعية، بما فيها مضادات جوية للمعارضة السورية، ستحد من فعالية سلاح الجو الروسي، ويغيّر المعادلات العسكرية مع النظام السوري على الأرض. بمعنى إعادة إنتاج أفغانستان أخرى لروسيا، كما جرى في الثمانينيات مع الاتحاد السوفييتي.
باختصار، على الرغم من خطورة التوتر الأخير بين روسيا وتركيا، واحتمالات تصاعده، غير أنه سيبقى ضمن سياقات محدودة، يمكن السيطرة عليها، ذلك أن لا اقتصاد البلدين، ولا مصالحهما يحتملان مواجهة مفتوحة، من دون أن يعني ذلك أنه لن تكون هناك ضربات متبادلة “تحت الحزام”.
المصدر : العربي الجديد