مقالات

خطار أبو دياب – عدة حروب في حرب: الصراع حول سوريا

أتى إسقاط تركيا للقاذفة الروسية في 24 نوفمبر الماضي، ليشكل نقلة نوعية في الصراع حول سوريا الذي يعتبر أول نزاع إقليمي – دولي متعدد الأقطاب في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين إذ تتزامن عدة حروب في حرب:
– الحرب الأهلية السورية (النظام والمعارضات، الطابع المذهبي، العامل الجهادي).

 
– النزاع بين محورين إقليميين (إيران والعراق وحزب الله في مواجهة تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر) ويتلازم مع نزاع شيعي – سني و”حرب الجهادين” في بلاد الشام مع ما يعنيه من وجود غريب.
 
– العامل الإسرائيلي المتمثل في غارات على إمدادات مفترضة لحزب الله وتدخلات غير منظورة تحت ستار الحماية الأمنية.
 
– البعد الكردي المتصل مع وجود الأكراد في الإقليم والتجاذب الإقليمي والدولي حياله وحيال ما يسمى مكونات أقلية مذهبية وإثنية (علويون، مسيحيون، دروز، اسماعيليون وتركمان).
 
– الحرب ضد الإرهاب وداعش من التحالف الدولي بقيادة أميركية أو من المحور الروسي – الإيراني.
 
– البعد الدولي مع التدخل الروسي الواسع والوجود الفرنسي – الأوروبي في شرق البحر الأبيض المتوسط.
 
إنها سلسلة مترابطة من نزاعات وحروب محلية وإقليمية ودولية في إطار صراعات على النفوذ والهيمنة تتعدى الساحة السورية نحو العراق واليمن وليبيا وأبعد من ذلك، وتصحبها حرب موجات الأثير مذهبية الطابع، في حقبة غير مسبوقة من الفوضى غير الخلاقة في العالم العربي، تتماهى مع زمن الاضطراب الإستراتيجي عالميا والذي أعقب حقبة الأحادية الأميركية.
 
لكن الثابت ضمن المتغيرات الناتجة عن التردد الأوبامي والاندفاع البوتيني، بقاء الشرق الأوسط ومنطقة غرب آسيا من المسارح الكبرى للنزاعات. من دون إهمال اختبار القوة حول أسعار النفط، أو الحرب الإلكترونية وغيرها من المجابهات الخفية والعلنية. ولذا يشكل الصراع في سوريا، وعليها وحولها، اختبارا هاما للتجاذبات ولموازين القوى الدولية والإقليمية.
 
من يتأمل خريطة الشرق الأوسط وموقع سوريا فيها كـ”قوة وسط” في منطقة حساسة بين الشرق والغرب، يتذكر عبارة نابليون بونابرت “إن سياسة الدولة تكمن في جغرافيتها”، وكل مقاربة جيوسياسية للوضع السوري يتوجب أن تأخذ بعين الاعتبار محاذاة سوريا لتركيا الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي وريثة السلطنة العثمانية، ومواجهتها أو تفاهماتها مع إسرائيل التي ضمت الجولان، وجوارها مع أردن الهاشميين ولبنان بارومتر الإقليم، وكذلك تواصلها مع العراق وجواره النفطي والخليجي العربي والإيراني. بلد عتيق كهذا يضج بالتاريخ والحضارات والأديان والجيوبوليتيك الحيوي والمتطور، يجد نفسه الآن مسرحا ممزقا في منطقة تشبه نزاعاتها المتشابكة العقدة الغوردية.
 
في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ارتبطت مقولة الصراع على سوريا بالدور المتعاظم للجيش السوري في الحياة السياسية وبتواتر الانقلابات العسكرية التي حركتها النزعات الداخلية المستشرية والمطامع الخارجية في السيطرة على هذا البلد دون الأخذ في الاعتبار مصالح شعبه وطموحاته. وأتى الكاتب البريطاني باتريك سيل ليتحدث عن انتقال سوريا في مرحلة حافظ الأسد إلى ممارسة دور اللاعب بدل بقائها لعبة بيد الآخرين.

لقد ارتبطت نجاحات الحكم السوري في تلك المرحلة بضمان الابتعاد عن الحرب مع إسرائيل عبر تفجير حروب لبنان والتصدي للقرار الفلسطيني المستقل، وكذلك من خلال حبك شبكة توازنات بين الصديق السوفييتي والغرب الأميركي خاصة، وكذلك بين الحلف الإستراتيجي مع إيران من جهة، والعلاقة المتينة مع المملكة العربية السعودية من الجهة الأخرى. بيد أن الحكم السوري الحالي الذي استمر على نفس النهج مع إسرائيل في جبهة الجولان، اندمج في المحور الإيراني دون مراعاة عمقه العربي، وراهن في مرحلة 2007 – 2010 على تفاهم ثلاثي إيراني ـ تركي ـ سوري دون إحاطة دقيقة بلعبة التحالفات وسقوفها.

 
إزاء الحراك الشعبي والثوري الذي انطلق في مارس 2011، أسقط القمع المفرط الطابع السلمي وأدخل النظام البلاد في أتون العسكرة وعزز ذلك تجاذب إقليمي حاد جعل من سوريا ساحة صراع مفتوح. وإذا كان العالم، وأوروبا خصوصا، أخذ يدرك خطورة الإرهاب الداعشي الذي وصفه قرار مجلس الأمن الأخير بالتهديد العالمي الذي لا سابق له، لا يمكن اختزال المأساة السورية بالحرب على الإرهاب أو بمسألة اللاجئين، وفي هذا الصدد يقول الكاتب الفرنسي المعروف آلان غريش “إن عمليات القصف التي نفذها النظام السوري ضد المدنيين كانت أكثر دموية وقتلا من انتهاكات وجرائم داعش في الميدان”.
 
بعد أربع سنوات على حروب بالوكالة، تزداد المخاطر من نشوب حرب عالمية مصغرة مع تهافت القوى الوافدة. ويتم نسيان مسار فيينا والحل السياسي والشعب السوري
المشكلة في سوريا إذن لا تنحصر في ترتيب أولويات الحرب ضد داعش أو الحرب ضد الأسد، وهذا يمثل أحيانا الشجرة التي تغطي الغابة الممثلة باللعبة الكبرى الجديدة وصدام المصالح بين قوى إقليمية همشت الموقع العربي بعد سقوط بغداد في 2003، وإذا كانت إسرائيل المستفيد الأول من انهيار “عدوها” السوري، فإن إيران تنطلق من معادلة اعتبار سوريا بمثابة المحافظة الـ35 ونظامها بمثابة جوهرة هلالها الإمبراطوري، أما تركيا أردوغان المتوجسة من الصعود الكردي فيداعبها أيضا الحلم الإمبراطوري وتتصرف أحيانا وكأن البلد لا يزال ولاية عثمانية. أما الانخراط السعودي فيندرج في الأساس في سياق المعركة المفتوحة ضد ما تراه الرياض توسعا إيرانيا في كل الاتجاهات.
 
منذ أواخر هذا الصيف أخذ المستوى الإقليمي من لعبة الأمم المعقدة على الأرض السورية يتراجع أمام البعد الدولي الذي زاد وزنه مع التدخل الروسي الكثيف، والذي أعقبه تصدير إرهاب داعش والتوتر الروسي – التركي المستجد.
 
بعد أربع سنوات على حروب بالوكالة، تزداد التحديات والمخاطر من نشوب حرب عالمية مصغرة مع تهافت القوى الوافدة. ويتم نسيان مسار فيينا والحل السياسي والشعب السوري والكل يريد الدفاع عن نفسه ومصالحه هناك.
 
فرنسا وأوروبا تعتبران أن القضاء على داعش ودولته يحمي القارة القديمة من ارتدادات الإرهاب؛ القيصر الروسي يعتقد أن الدفاع عن موسكو في وجه الخطر الإسلامي يبدأ من شرق البحر الأبيض المتوسط؛ والمرشد الإيراني يعتبر أن المعركة ضد ما يسمى التكفيريين محورها سوريا؛ والسلطان التركي يهمه التركمان ويريد الدفاع عن أمنه القومي في سوريا؛ والحركة الكردية تريد الدفاع عن كردستان سوريا؛ ودعاة الجهاد الكوني يعتبرون سوريا أرض الرباط. أما القابع في البيت الأبيض فلا يزال ينتظر نتائج مباريات الحروب التدميرية، والعرب لا حول لهم ولا قوة وما كان يسمى قلب عروبتهم النابض تتناهشه كل الأنياب.

المصدر : العرب 
زر الذهاب إلى الأعلى