يزدحم البحر الأبيض المتوسط بالقطع البحرية العسكرية فائقة القدرة. أطلقت فرنسا حاملة طائراتها “شارل ديغول” بعد هجمات باريس الإرهابية، وقبلها حركت أميركا حاملة “هاري ترومان”، وفق “خطة سابقة”، إلى مواقع في البحر المتوسط. وبالطبع، التحقت موسكو بهذا الحشد العائم، لتأخذ منصة بين هذه القوارب الضخمة، تطلق منها طائراتها ومضاداتها.
يوحي الاستخدام النهائي لكل هذه القطع بتفضيل الجو بوصفه ساحة معركة، وعلى الرغم من تباين ظروف وجود كل قطعة من هذه القطع في البحر المتوسط، إلا أن العنوان العريض “والمبرر” هو الهجوم على تنظيم الدولة الإسلامية والقضاء عليه. تسعى فرنسا، المطعونة في أمنها الباريسي، إلى الرد الحاسم على الهجوم الذي تعرّضت له عاصمتها مرتين في عام. هوجم، في الأولى، مقر مجلة ساخرة، وفي الثانية، تلقت عدة مواقع ثقافية ضربات همجية منسقة، ومع أن بعض المهاجمين يحملون جوازات سفر فرنسية، إلا أن السلطات الفرنسية اعتبرت أن خصمها هو تنظيم الدولة الموجود بقوة في سورية والعراق.
تدّعي روسيا، هي الأخرى، أن أمنها القومي مهدد، لأن معظم المنضوين تحت تنظيم الدولة قادمون من مناطق سوفياتية. لذلك، قررت أن تأتي بأساطيلها لتقضي عليهم، قبل أن يتمكنوا من العودة من حيث جاءوا.
تهاجم الطائرات الروسية التنظيم، بالطبع، لكنها تقتل، بشكل رئيس، كل القوات التي تعارض نظام الأسد، زاعمةً أن هذه التشكيلات العسكرية تابعة فكرياً لتنظيم الدولة، ومن الواجب القضاء عليها، فيما تأخذ الولايات المتحدة على عاتقها محاربة الإرهاب مهمة دائمة، ووجود حاملة طائراتها في مثل هذه المواقع الساخنة جزء من خطتها الدائمة.
يمتد التنظيم الإرهابي في البادية السورية على ضفتي الفرات، ويجتاز سورية إلى البر العراقي، محافظاً على مساره النهري، إلى أن يصل إلى الفلوجة، ويتوسع جغرافياً هنا وهناك بين حقول النفط الغنية، شريانه المغذي، ليمسك قطعة طويلة ضيقة من الأرض، مع وجود قوي ومؤثر له في مدينتي الموصل والرقة.
تتحرك قوافل التنظيم على طول الطرق، الممتدة على الشريط الذي تسيطر عليه، وتتصيّد الطائرات المحلقة فوق الطرق المكشوفة، وتفاخر بقاذفات القنابل الضخمة التي تملكها، من خلال فيديوهات عرض الانفجارات التي تحدثها قنابلها في الأهداف الأرضية السهلة، لكن سيل الأهداف لا ينقطع، وأخبار تنقلات التنظيم بين الرقة والموصل لا تتوقف، فيما الطائرات الحديثة تلهث في السماء، باحثة عن هدفٍ تلقي فوقه حممها، قبل أن تعود إلى مربضها على حاملة الطائرات، من دون أن تنقص الجغرافية “النهرية” التي تحتلها داعش متراً واحداً.
تدرك العقليات العسكرية التي تحرّك غرف العمليات الجوية أن امتلاك الأجواء يفرض حظراً مؤقتاً على التحركات الأرضية، لكنه لا يمنع النشاط بشكل عملي، وتنظيم مثل داعش يتبنى سياسات “الخِلْد” الليلية، قد لا يستطيع تفادي القنابل المنهمرة عليه من السماء، لكنه يستطيع، بعد التآلف الظرفي، الهرب من معظمها، ومن ثم العودة إلى نشاطه السابق. لذلك، إن امتلاك الأرض شرط أساسي للقضاء على التنظيم، وهو شرط بحاجة إلى قوة عسكرية أرضية ذات أعداد مناسبة، للتمسك بالأراضي التي تقصفها الطائرات من الجو، لمنع التنظيم من العودة إليها. عند هذه النقطة، قد يحدث الانقسام الكبير، لأن الدول الكبرى التي قد تقبل سقوط طائراتها لن تقبل بالتضحية بقوات برية.
يقدم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مرشحه، أي الجيش التابع لبشار الأسد، وهو عرض مغر قبلته فرنسا، وسرعان ما نفته على لسان وزير خارجيتها، فيما رفضت الولايات المتحدة مناقشته، واختارت دعم قوات كردية، مثيرةً بذلك حساسية تركيا، وهي النقطة التي قد تستغلها روسيا، بالإضافة إلى الغبار الذي أثاره إسقاط طائرتها، فروسيا ماضية في تعويم جيش الأسد خياراً بَرياً، لكنه خيار أتلفه الوهن، ولا ينفع معه حتى الكي، وشبيحة الأسد يصطادون الجنود على طريقة “السفر برلك” من على الحواجز الكثيرة المنتشرة في مناطق سيطرة النظام.
المصدر : العربي الجديد