المصير الغريب الذي لقيه سمير القنطار في دمشق يرسم علامات استفهام كبيرة حول دور الرجل في سورية، والمهام التي كان يتولاها هناك، والنهاية المأسويّة التي لا تليق برجل كان ذات يوم مناضلاً مقداماً وشريفاً فنال، بفضل ذلك وعن جدارة، لقب «عميد الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية».
أما وأنّ «العميد» الرمزي صدّق نفسه، وصار عميداً عسكريّاً يقاتل، عوضاً عن إسرائيل التي اعتُقل في سجونها زهاء ثلاثين عاماً، شعباً أعزل تكالب عليه الطّغاة والمجرمون وسماسرة الأحلاف والسلاح، فهذا ما يلقي بتاريخ الرجل، الذي قتل أربعة إسرائيليين في 1979، في مهبّ النسيان، بل يعطف على ذلك أسفاً وندماً وحيرة من كيفية قبول «قامة» مثل القنطار هذا المصير المجانيّ الذي يُحيل الأعوام الثلاثين في سجون الاحتلال الصهيونيّ هباءً منثوراً، فالأشياء بخواتيمها، والنهايات إمّا أن تنتسب الى روح التّاريخ، أو تسيل على حوافّه، وتجفّ مع أوّل طلعة شمس!
سيقول يساريّون متقاعدون، أصابتهم الشيخوخة الروحيّة، والعطب الوجدانيّ، إنّ القنطار سقط «كما أبطال الجيش العربيّ السوريّ الذين يتعرضون، منذ خمس سنوات، لتآمر صهاينة الداخل والخارج معاً»، مؤكدين، في بيان سقيم لم يأبه به أحد، أنّه «المناضل المقاوم الذي ما تاهت بوصلته يوماً، من فلسطين إلى لبنان إلى سورية، مؤسّس المقاومة السورية الشعبية لتحرير الجولان، وبدمائه الآن، عمّدها»، ثم محمّلين المسؤوليّة في مصرعه، كما جرت العادة، لـ «عملاء جبناء»، أعطوا المعلومات لصواريخ إسرائيلية مجنّحة دمّرت البناية التي يقطنها القنطار في جرمانا قرب دمشق، في «مشهد مكثّف للتحالف الرجعيّ – الصهيونيّ، عاشتْه وتعيشه سورية التي آمن المقاوم الأسير الشهيد بأنّها الحصن والجدار والمستقبل، فمن دونها سنسقط جميعنا».
هؤلاء اليساريّون و «المقاومون الممانعون» أنفسهم، هلّلوا للتدخل الروسيّ المباشر في الحرب على الشعب السوري، كما كانوا هلّلوا وطبّلوا لولاية الفقيه، وهم الشيوعيّون الثوريّون الذين يعارضون على نحو حتميّ الدول الثيوقراطيّة التي تحكمها العمائمُ والميتافيريقا. لكن لا بأس من تذكيرهم بالاتّفاق الذي أبرم بين الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو، في 21 أيلول (سبتمبر) الماضي في موسكو، حيث اتفقا، كما نقلت وكالة فرانس برس، على «آليّة لتنسيق الأعمال العسكريّة بين البلدين بهدف تجنّب أيّ احتكاك في سورية وسط تعزيزات عسكريّة واضحة لموسكو دعماً لنظام الرّئيس السوريّ بشّار الأسد (…) فيما أشارت وسائل إعلام إسرائيليّة، إلى أنّ المحادثات شملت تجنّب احتكاك بين طائرات الجيشين فوق سورية».
وفي هذا السياق، غضّت روسيا النظر عن الطائرات التي قصفت البناية في جرمانا بدمشق، ولا بأس أن نضيف أنّ النظام السوريّ الذي قاتل القنطار من أجله، قد باعه بثمن بخس، فطمأنينة إسرائيل بالنسبة الى نظام الأسد، وبالتالي تعزيز فرص بقائه واستمراره في قتل السوريين، أهمّ من «عميد الأسرى» ومن حامل لواء المقاومة، ومن «السيّد» نفسه. فما يزال الشّعار «الخالد» نفسه يتردّد منذ خمس سنوات: «الأسد أو نحرق البلد»!
قيل كثيراً عن دور القنطار في تأسّيس «المقاومة الوطنيّة السوريّة في الجولان»، وأنّه نذر نفسه من أجل هذا الهدف، لكنّ الوقائع أثبتت خلاف ذلك، فالرجل الذي فيه الكثير من مواصفات قاسم سليماني، ربما استهواه الدّور، وربما صدّق أكذوبة أنّ «سوريّة الأسد» هي الحصن والجدار والمستقبل، فاندفع «العميد» ينسّق ويخطّط العمليات لقتل مزيد من السوريين، ثم «الاحتفاظ بحقّ الرد» على إسرائيل، كما كان يفعل الأسد الأب، وشبله الصغير.
وعلى النّقيض مما قاله «اليساريّون المتثائبون» في بيانهم، تاهت بوصلة القنطار، وأصابت الغشاوة بصيرته «الثوريّة» وقضى على نحو مؤسف ومريب لا يليق بـ «رجل شجاع»!
المصدر : الحياة