من الطبيعي أن يثير اغتيال اللبناني، سمير القنطار، قبل أيام، في غارة إسرائيلية، على الأرجح، على مبنى في بلدة جرمانا، جنوب دمشق، كل هذا التوتر بين محبي الرجل ومبغضيه. فالقنطار، كانت له رمزية خاصة في الوعي العربي الجمعيِّ، مقاوماً قضى في سجون إسرائيل 29 سنة، بعد أن اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1979، إثر عملية عسكرية نفذها في مدينة نهاريا الساحلية، شمال فلسطين المحتلة عام 1948، والتي تسلل إليها في زورق مطاطي من لبنان برفقة اثنين من أعضاء جبهة التحرير الفلسطينية.
وفي 1980، حكمت محكمة إسرائيلية على القنطار الذي لم يتجاوز حينها الستة عشر ربيعاً ونصف، خمس مؤبدات، مضافاً إليها سبعة وأربعين سنة، واستحق بعد ذلك لقب عميد الأسرى العرب. وبقي القنطار في السجن إلى أن خرج في صفقة تبادل أسرى عام 2008 بين حزب الله وإسرائيل، وتولى، منذ ذلك الحين، مهام قيادية في حزب الله تتعلق بالمناطق الدرزية في فلسطين المحتلة عام 1948، فهو ينتمي إلى الطائفة الدرزية.
ذلك كان القنطار المقاوم، غير أن القنطار لم يستشهد على أرض فلسطين، ولا حتى في ساحة الصراع مع الدولة العبرية، بل قتل على أرض سورية، وإنْ بأيدٍ إسرائيلية كما يبدو. يقول حزب الله إن القنطار كان في سورية في مهمة لتشكيل خلايا مقاومة لتحرير الجولان السوري المحتل، غير أن تصريحات الرجل التلفزيونية المتكررة تؤكد أنه، كما عناصر حزب الله الآخرين في سورية، قد يكون شارك في حرب النظام السوري على شعبه، ومن ذلك أن القنطار كان قد وصف، في مقابلة سابقة له مع التلفزيون السوري الرسمي عام 2013، الثوار في سورية بأنهم “الوجه الأقبح لإسرائيل”. بل يؤكد، في المقابلة نفسها، أن من يُقاتِلُ من يصفهم بـ”المسلحين” في سورية، إنما يقاتل إسرائيل، وإن هزيمتهم هزيمة لإسرائيل نفسها! وموقف القنطار هنا لا يختلف كثيراً عن موقف الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عندما أطلق صرخته، معلناً أن “طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني وحمص وحلب والسويداء والحسكة”!
إذن، تشرح الجدلية السابقة لنا لماذا نجد هذا التوتر الحاد في مقاربة مقتل الرجل، بين من نعاه “مقاوماً”، وبين من شمت بمقتله “شبيحاً”، فالذي عدّه “مقاوماً” نظر فقط إلى ماضيه المقاوم في فلسطين، وإلى الأمر شبه المؤكد أن إسرائيل هي من اغتالته، في حين أن من يصر على أنه قضى “شبيحاً”، فإنه نظر إليه من زاوية موقفه من الصراع في سورية، وتأييده نظام بشار الأسد، والعمل معه عبر انتمائه لحزب الله المتورط في سورية والوالغ في دماء شعبها.
أعيت تلك الجدلية كثيرين في التعاطي معها، ووجدت حركة حماس، وفصائل فلسطينية أخرى، نفسها غارقة في معمعة القضية. فالمتحدث باسم حماس، في قطاع غزة، سامي أبو زهري، دان عملية الاغتيال، وقال في بيان إن “حماس تدين جريمة اغتيال المناضل سمير القنطار”. وكذلك فعل الجناح العسكري للحركة، كتائب الشهيد عز الدين القسام، إذ أصدرت بياناً جاء فيه “كتائب القسام تنعى عميد الأسرى العرب في سجون الاحتلال سابقاً، المناضل سمير القنطار، الذي اغتاله العدو الصهيوني”.
ولكن، ولأن الموضوع فيه تعقيدات، كما أشرنا سابقا، وجدت حماس نفسها في وضع لا تحسد عليه. فالمدافعون عن موقفها قالوا إن حماس نعت “القنطار المقاوم”، استناداً إلى سابقته، ولأن إسرائيل من اغتالته، كما أن موقف حماس انطلق، في ما يبدو، من تقديرها ظروفها وعلاقاتها الحساسة جداً مع حزب الله وإيران. في حين أن الناقمين عليها نظروا إلى خواتيم حياة القنطار، وما يبدو أنه كان على أرض سورية لمساندة نظام الأسد ضد شعبه. ضمن السياق السابق، يغدو من المفيد تسجيل نقاط هامة هنا:
أولاً، أنهى سمير القنطار حياته على غير ما بدأها، ولا يمكن أن تكون مقاومته في فلسطين في الماضي مسوّغاً لتطهير سيرته في سورية التي قضى نحبه على أرضها، لا على أرض فلسطين. وغني عن التأكيد أن الدم السوري لا يقل حرمة عن دم الفلسطيني.
ثانياً، لا ينبغي لأحد أن يشكر إسرائيل المجرمة، أبداً، أنها قتلته، أو أن يَتَوَقّعَ ممن لديه ذرة من وطنية وعروبة وانتماء للذات أن يفعل ذلك. فإسرائيل مجرمة، محتلة، معتدية، لمن نسي ذلك، أو يحاول أن يتناساه اليوم. وشخصياً، لو قتله ثوار سورية في أرض معركة، لما لُمْتُهُمْ أبدا، فمن حقهم الدفاع عن أنفسهم أمام العدوان والمعتدين عليهم. ولكن، للأسف، فإن القنطار معتدٍ ضلّت بوصلة بندقيته، كما ضلّت بوصلة بندقية حزب الله. ولا يشفع لحزب الله، هنا، محاولته تغليف خريطة فلسطين بألوان العلم الإيراني في تشييعه القنطار، فنحن أوعى من أن نؤخذ بالتسويق بعيداً عن الحقائق على الأرض.
في عام 2012 قال لنا إسلامي سوري، وكان عضواً في قيادة المجلس الوطني السوري، حينها، إن إسرائيل هي أحد مفاتيح الحل بالنسبة لهم، وهناك ثمن قد يضطرون لتقديمه لها. كان ذلك في جلسة حضرها كثيرون، في ولاية نيوجيرسي الأميركية. وقبل ذلك، في 2011، كان مسؤول آخر في المجلس الوطني السوري، وهو علماني، يخاطب منظمة صهيونية يهودية أميركية، هي اللجنة اليهودية الأميركية، وبرر ذلك، حينها، بأنهم كسوريين مضطرون إلى ذلك. وكان المجلس الوطني السوري، حينئذ، الممثل الشرعي الوحيد للمعارضة والثورة.
ما أريد قوله، هنا، إنه وعلى الرغم من معارضة كثيرين منطقهم حينها، غير أنه كان هنالك تفهّم لظروفهم، وبأنهم كانوا لا يمثلون روح الثورة السورية، بل حسابات بعضها. واليوم، يعارض كثيرون موقف فصائل فلسطينية، كحماس، في هذه المسألة. ولكن، ينبغي كذلك تفهّم ظروفهم، وبأن موقفهم هذا لا يمثل روح الثورة الفلسطينية، بل حساباتها. من دون أن يعني ذلك أبداً أن مثل هذا المنطق ينسحب على فصائل فلسطينية مشتركة في سفك دماء السوريين والفلسطينيين، على السواء، في سورية، كالجبهة الشعبية – القيادة العامة.
باختصار، سورية كفلسطين والعراق واليمن وليبيا، هي هموم وجروح واحدة، وكلها محكومة بتعقيدات كبيرة وتحديات ضخمة، تستلزم بعض المرونة المُرَّةِ في سياقات خاصة أحياناً. أيضا، اختارت إيران، هي وروسيا، ومن شاركهم سفك دماء السوريين، أن يكونوا في خانة الأعداء لنا نحن الشعوب العربية، فالعدوان مؤسس على الاعتداء. ولكن، في غمرة ذلك كله، لا ينبغي أبدا أن ننسى أن إسرائيل هي العدو الأول إلى أن ينتهي مشروع عدوانها. وبسبب هذه الموضوعة الثابتة في حق إسرائيل، ثار كل ذلك اللغط بحق سمير القنطار الذي رفعته فلسطين كمقاوم يوماً، وأنزلته سورية، اليوم، شريكاً في الجريمة بحق شعبها.
المصدر : العربي الجديد