مقالات

بدر الإبراهيم – كيف يعيش تنظيم داعش؟

حصلت، في السنوات الثلاث الماضية، أحداث كثيرة وكبيرة على امتداد المنطقة العربية، وفي أوروبا، كان تنظيم الدولة الإسلامية في القلب منها، ما يجعل هذا التنظيم تحديداً، دون غيره من التنظيمات في المشرق العربي، هدفاً لدول عديدة، وتحالفاتٍ تشكلت، وأخرى في طريقها إلى التبلور، وعلى الرغم من هذا العداء الذي يظهره التنظيم للفاعلين الإقليميين والدوليين، وما يظهره أولئك الفاعلون تجاه التنظيم من عداءٍ أشد، إلا أن التنظيم قادرٌ على الاستمرار فاعلاً داخل المشرق العربي، وتهديداً للدول الغربية، ولروسيا أيضاً، ما أثار التساؤلات بشأن قدرته على الصمود، على الرغم من كل العداوات التي تحيط به، وعلى الرغم من رفعه سقف التحدي في أكثر من مناسبة، واكتسابه أعداءً جدداً بشكلٍ متواصل.

نشأ هذا التنظيم (بأسمائه وأطواره المختلفة منذ عام 2003 ) ونما في ظروف سياسية واقتصادية محددة، مكّنته من الظهور والتمدد، بدايةً من الاحتلال الأميركي للعراق، والتركيبة الطائفية للنظام السياسي الجديد في بغداد برعاية بول بريمر، وإلغاء مؤسسات الدولة العراقية وحل الجيش العراقي، وصولاً إلى الثورة السورية وما تلاها من احترابٍ أهلي، ضمن تدخلات إقليمية ودولية، أدَّت إلى تقوية تنظيم داعش وإخوته. في هذا كله، يمكننا تلمّس أثر الطائفية والصراعات الأهلية وانهيار الدولة والتدخلات الخارجية الغربية، بوصفها عوامل أساسية في نشأة التنظيم ونموه، ويمكننا، أيضاً، أن نلحظ كيف يعتاش هذا التنظيم على الصراعات والحروب، باعتبارها البيئة المناسبة لوجوده. 

تتضمن فكرة العيش ضمن الصراعات والحروب مستويين: يتعلق الأول بالبيئة الإقليمية، حيث يستفيد تنظيم داعش من اضطراب هذه البيئة الإقليمية بالعموم، وعدم استقرارها، ومن التناقضات الكبيرة بين الفاعلين الإقليميين والدوليين داخل الساحة العربية، حيث تفوق هذه التناقضات التناقض مع تنظيم داعش، فلا تكون مواجهته أولوية بقدر المواجهة بين الأطراف الإقليمية والدولية، بل ويصبح التقاطع مع داعش وإخوته ممكناً في سبيل تصفية الحسابات ضمن هذا الصراع الإقليمي/الدولي، كما رأينا في الأزمة السورية من فتح الحدود لتدفق المقاتلين الجهاديين والأسلحة، ما أعطى تنظيم الدولة، المحاصر وقتها بفعل ضربات الصحوات العراقية، فرصةً لولادة جديدة، وهذا يشير بوضوح إلى أثر الصراعات الإقليمية والدولية في تضخم هذا التنظيم، وتمدده بالشكل الذي نراه اليوم.

ويتعلق المستوى الثاني من الصراعات، بالذات، بالساحتين العراقية والسورية، فالحرب فيهما مصدر انتعاش لتنظيمٍ مثل تنظيم الدولة، إذ يعمل التنظيم على الاستفادة من انهيار الدولة أو تآكلها في العراق وسورية، لتفعيل هويات فرعية (تحديداً الهوية المذهبية السنية في مواجهة الهويات المذهبية الأخرى)، يُثَبِّت بها وجوده حامياً لطائفة مقابل مليشيات الطوائف الأخرى، والعمل على مزج مفاهيمه ما قبل الحديثة، المتعلقة بإعادة الخلافة، وإحياء الفتوحات، بأدوات الدولة الحديثة ومفاهيمها، من الدفاع عن سيادة التنظيم على الأراضي التي يتوسع فيها، إلى إنشاء جهاز بيروقراطي، ينظم إدارة المجتمعات الواقعة تحت سيطرته، ليصل إلى دولته المنشودة، تحت عنوان الخلافة، بروح حديثة وعصرية. 

يستفيد التنظيم من الحرب، ليس فقط بمعناها الصراعي، وإنما بما توفره، أيضاً، من انخفاض في كلفة إدارة المناطق التي يسيطر عليها، فكما تلاحظ الصحافية والاقتصادية الإيطالية، لوريتا نابوليوني، فإن الحيز الاقتصادي لهذه المناطق منحصر باقتصاد الحرب، والتكاليف غير العسكرية في حدها الأدنى، حيث يحتاج السكان فقط إلى حد الكفاف للعيش في ظروف الحرب، وهذا يمكن توفيره بسهولة، في ظل القوة المالية التي يحوزها التنظيم، من خلال صادرات النفط التي توفر مليوني دولار يومياً بحسب بعض التقديرات، وعبر التهريب المريح للسلاح والبضائع والأموال على الحدود السورية التركية، وأيضاً عبر فرض ضرائب على التجار والشركات والمصانع، إضافة إلى التبرعات.

ليست هذه القدرات المالية فريدة من نوعها، فقد تمتعت تنظيمات خارج الدولة تاريخياً (منظمة التحرير الفلسطينية مثلاً) بقدرات مالية ضخمة، لكن السؤال يظل حول اكتساب التنظيم شرعية الدولة عند السكان المحليين في مناطقه. وهنا، يحاول تنظيم داعش تقديم خدمات اجتماعية، على غرار منظمات أخرى فعلت الشيء نفسه حين حكمت مناطق بعينها، مثل منظمة الفارك الكولومبية، إذ يوفر التنظيم الطعام والكهرباء ويصلح الشوارع لسكان الرقة والموصل، كما تؤكد تقارير، لكنه، في الوقت عينه، يقسر السكان على نمط حياة محدد، تحت عنوان تطبيق الشريعة، فيشتبك مع قطاعاتٍ ليست هينة، وعلى الرغم من سعيه إلى التحالف مع العشائر، إلا أنه، لأسباب متعددة، يختلف مع بعضها، فينتهي الوفاق إلى حرب، وهذا يُضعف قدرته على كسب ولاء السكان.

حاضنة داعش الشعبية وليدة ظروف الحرب الأهلية في المشرق، وبعضهم يعبر بشكل واضح عن الرغبة في الانتقام من الطرف الآخر في الصراع، عبر الانضواء تحت مظلة تنظيم داعش، أو التحالف معه، لكن انتهاء هذه الظروف، وإعلاء التناقض مع التنظيم على باقي التناقضات الإقليمية والدولية، سيحمل تحدياً بلا شك لاستمرارية هذه الدولة الهجينة التي أقامها التنظيم، وقد يفرض تغييراً في تركيبتها وتعاملها مع العالم. لقد بنت تنظيمات مسلحة دولاً “وهمية” من قبل، ولم تتحول إلى دولٍ حقيقية، ويمكن أن يكون مصير “الدولة الإسلامية” مشابهاً.

المصدر : العربي الجديد 

زر الذهاب إلى الأعلى