ولد نظام “البعث” من انقلاب عسكري مناقض لإرادة الأغلبية الساحقة من السوريين، ولم ينجح في فرض وجوده والاستمرار، إلا بعد أن قبل أن يكون سلطة احتلال، وتحول بالفعل إلى سلطة احتلال. وكان عرّاب هذا التحول هو حافظ الأسد الذي تسلم قيادة النظام المضطرب منذ انقلابه على رفاقه في أواخر 1970.
وكأي سلطة احتلال، ما كان في وسع الأسد أن يحتفظ بسلطته في مواجهة شعب رافض لها إلا بالنجاح في كسب تأييد الدول الكبرى الإقليمية والعالمية وبدعمها. وكانت سياسته ومصدر إعجاب الدول التي دعمته به الطريقة التي أدار بها مصالح الدول الأجنبية المتناقضة في سورية، وفن تزوير الإرادة الشعبية الذي أتقنه من خلال مطابقة سياسة وكيل أعمال القوى الأجنبية على الأرض السورية مع الأهداف والشعارات النبيلة التي كانت تحرّك السوريين والشعوب العربية، وفي مقدمها مقاومة التوسع الإسرائيلي ومبادئ السيادة والاستقلال التي كرّست نصف قرن من الكفاح الدامي ضد الاحتلالات الأجنبية.
بعكس ما يردده باحثون كثيرون اليوم، كان حافظ الأسد أول من انحاز بسورية من منطقة النفوذ السوفييتي الروسي نحو النفوذ الغربي. وفي إطار الانحياز نحو الغرب، طور سياسة العداء لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها، وفي إطاره أيضاً خطط للتدخل السوري في لبنان عام 1975، والذي كان ضد إرادة الحكومة السوفييتية. وفيه أيضاً دخل في المفاوضات السورية الإسرائيلية حول الجولان، وعمل على تطوير سياسة التقرب من دول الخليج، والمملكة السعودية بشكل خاص، وشارك، على هذا الأساس، في التحالف ضد نظام صدام حسين، ثم في الحرب التي قادتها إدارة الرئيس الأميركي، جورج بوش (الأب) ضده.
لكن حافظ الأسد الذي قرر التوجه في اتجاه الغرب لم يذهب بذلك كما فعل السادات من قبل إلى حد قطع جميع علاقات التعاون مع السوفييت، ثم مع الروس الذين ورثوهم. ولذلك، بدت حركته وكأنها محاولة لإعادة التوازن لعلاقات سورية الدولية أكثر منها تغييرا للولاء. وهذا ما فعله أيضا في علاقاته مع الدول الإقليمية الرئيسية، فوقوفه إلى جانب المملكة العربية السعودية والخليج لم يجعله يخفف من قوة علاقاته مع إيران، حتى قبل التقاطع الكبير في المصالح منذ سقوط النظام البعثي العراقي.
هكذا، لم يغير التوجه السياسي الغربي للنظام، على الصعيد الدولي، من اعتماد الأسد الرئيسي في قطاع الأمن والجيش، وعلى جميع المستويات، على الاتحاد الروسي الذي ورث الاتحاد السوفييتي. وهذا ما حفظ للروس موقعاً استراتيجياً ثابتاً في البحر المتوسط والشرق الأوسط، لا يقتصر فقط على قاعدة طرطوس الرمزية. وفي المقابل، عزّز النظام تعاونه السياسي والدبلوماسي مع واشنطن وبروكسيل، في إطار البحث عن تسوية سياسية مع إسرائيل، واستعادة الأراضي السورية المحتلة في الجولان. ومنذ أواخر التسعينيات وبداية القرن الحادي والعشرين، توثق التعاون بين أجهزة الاستخبارات السورية والأميركية والأوروبية عموماً إلى درجةٍ صار النظام السوري يفتخر، هو نفسه، بأنه المسؤول عن إنقاذ أرواح أميركيين وأوربيين عديدين من عمليات الإرهاب. ولعبت أجهزة المخابرات السورية دوراً كبيراً في تعقب التنظيمات المتطرفة واختراقها، وتنفيذ المهام القذرة لحساب واشنطن على الأرض السورية، منذ بداية القرن. وتحول هذا التعاون الأمني إلى أهم تجارة مشتركة بين البلدين.
وعلى المستوى الإقليمي، طوّر النظام علاقات قوية مع طهران، من خلال انفتاح واسع النطاق على المستويات، السياسي والدبلوماسي والمذهبي، والذي تحول بعد أزمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق المرحوم رفيق الحريري إلى حلف استراتيجي، وتعاون متعدد الأشكال، أعطى لطهران الانطباع بأن سورية أصبحت جزءاً من مجالها الحيوي، وبالنسبة لبعض قادتها من ترابها الوطني. وفي المقابل، نجح الأسد في استرضاء تركيا، أولاً، بالتوقيع على اتفاقية أضنة (أكتوبر/تشرين أول 1998) التي أنهت عقوداً طويلة من دعم النظام السوري حزب عبدالله أوجلان، العمال الكردستاني، ثم أكثر من ذلك، بالتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة عام 2004. وقد أنتج هذا التعاون الأمني، ثم الاقتصادي، عرساً حقيقياً في العلاقات السورية التركية، استمر إلى أشهر طويلة بعد اندلاع الثورة السورية.
وقد فتحت سورية أمام تركيا، بهذه الاتفاقية، أبواب المشرق العربي على مصراعيه، وقدمت لها خياراً شرق أوسطي، رديفاً للخيار الأوروبي المعلق. وفي المقابل، حصلت إسرائيل على كل ما تتمناه من حكومة الأسد، وهو الحدود الآمنة التي كانت تحلم بها، حتى من دون اتفاقية سلام، والتي سمحت لها بالضم العملي للجولان، كما استكملت بها الحدود الآمنة التي حصلت عليها في الجبهة الجنوبية المصرية، بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، ومكّنتها من عزل الحركة الوطنية الفلسطينية وتحييدها، وإنهاء حلم الدولة الفلسطينية. وكان النظام قد شنّ حرباً شعواء ضد هذه الحركة أيضاً، وعمل على تقسيمها منذ نشوئها في السبعينيات، وخاض ضد قواتها حرباً دموية في شمال الأردن (سبتمبر/ أيلول 1970)، ثم في لبنان (أكتوبر/ تشرين أول 1983)، ولم يتردد من قبل في طرد رئيسها ياسر عرفات من دمشق (يونيو/ حزيران 1983)، ما لم يكن يستطيع أن يفعله أي نظام عربي.
أما من جهة الدول الخليجية، فقد كان من السهل تحييدها، منذ وصول الأسد الأب إلى السلطة، بالتحالف الضمني، ثم العلني معها، ضد نظام صدام حسين، ونزوعه القوي إلى الهيمنة الإقليمية، أو من خلال ابتزازها بحمايتها من الإرهاب في مقابل ما قدمته من مساعدات ومعونات مالية.
هكذا ضمن الأسد أن تجد جميع القوى الإقليمية مصلحة لها في الإبقاء على نظامٍ يتعاون معها، ويؤمن مصالحها الرئيسية، حسب الأجندة الخاصة بكل منها. وكان ثمن ذلك تحييد الشعب السوري وعزله، وشل إرادته، وحرمانه من أي أملٍ، بدعم أو تضامن أو تعاطف خارجي، عربي أو دولي، وتحويل سورية، بالفعل، إلى ملكية خاصة، بقبول دولي، ومزرعة عبودية، تأتمر بأمر رجل واحد وتخضع لإرادته، ولا تعبد سواه. وبمباركة الدول وإجماعها، سجّل حافظ الأسد الدولة “الجمهورية” والشعب قبل أن يموت باسم ابنه بشار، ولم يصدر عن أي طرف، لا داخلي ولا خارجي، تعليق أو استغراب أو ملاحظة واحدة.
الوصاية الروسية المفروضة
حتى ربيع العام 2011، واندلاع الثورة الشعبية، عاش النظام السوري، وضمن مصالحه واستقراره، والقوة التي مكّنته من احتواء المشكلات الكبرى الداخلية التي كان يعاني منها، وهي ليست فقط سياسية، على هذا التوزيع الدقيق والمركب للمصالح الذي ضمن به ولاء الدول الإقليمية وغير الإقليمية، حتى عندما كان يدخل في نزاعاتٍ مع بعضها، بسبب ميل هذا الطرف، أو ذاك، إلى المبالغة في توسيع نفوذه على حساب الأطراف الأخرى، وبالتالي، تهديد التوازن الدقيق القائم. فبمقدار ما نجح الأسد في إيجاد توزيع للمصالح الوطنية على الدول الأجنبية، وضمن تأييدها، تحول هو نفسه، أعني نظامه وسلطته، إلى مركز توازن إقليمي، أو أحد أركان هذا التوازن الرئيسية. وأصبحت سورية، خلال سنوات طويلة، حقل استثمار مشترك للدول الإقليمية الرئيسية، وفرصة لتأمين التعاون في ما بينها، وتحييد نزاعاتها أو تناقضاتها المتعددة.
وكانت، للسبب نفسه، منطقة فك اشتباك بين الأطراف، وتجنيبها الصدام في ما بينها، بمقدار ما حيّدت سياسة التوازنات هذه الموقع الاستراتيجي الاستثنائي الذي تمثله سورية، وأبعدته عن النزاعات الدولية والإقليمية. وبمقدار ما أمن هذا التوزيع استقرار النظام، جعل من بقائه واستمراره ضماناً للاستقرار والسلام الإقليمي والدولي، ولو كان ذلك على حساب تجريد بعض الشعوب من حقوقها، وفي مقدمها الشعب السوري.
وهذه هي روح السياسة التي طبقها، أيضاً، في الداخل بتحييده السلطة عن أي نزاع، وإطلاقه رهانات ثانوية بديلة، يتنازع من حولها الأفراد والجماعات، اقتصادية، حيد من خلالها رجال الأعمال، ورمزية مرتبطة بالصراع على مناصب الدولة الإدارية ووظائفها، بعد أن حولها أيضاً إلى مناصب إدارية تنفيذية، مفرغة من محتواها السياسي، بما في ذلك منصب رئاسة الوزارة، أو التنافس على اقتناء المنتجات الكمالية ونصف الكمالية، من خلال احتكار إنتاجها أو استيرادها وتوزيعها، من الشقة إلى السيارة خصوصاً إلى علبة المحارم الورقية.
انهارت سياسة الأسد القائمة على الحفاظ على التوازنات، وبالتالي، اللعب على التناقضات وإدارتها، بعد موت مصممها، لسببين رئيسيين متلازمين ومتفاعلين. الأول، كسر الشعب قانون العزل والخنوع، تحت تأثير ثورات الربيع العربية ودخوله القوي إلى حلبة الصراع السياسي. والثاني كسر طهران قانون الموازنة الدقيقة بين المصالح الإقليمية والدولية، وسعبها إلى الهيمنة الإقليمية بعد انهيار الدولة العراقية. وفي السياق، سوف تندلع الحرب أيضا، بتطابق إرادتين: إرادة النخبة الحاكمة وتصميمها على استخدام السلاح للدفاع عن احتكارها السلطة، وتدمير النخب الجديدة المطالبة بالمشاركة فيها، وإرادة طهران في الانفراد بموقع سورية الاستراتيجي، وتحويلها إلى مقاطعة إيرانية، وتهديد مصالح جميع الشركاء الإقليميين الآخرين، وطردهم منها.
هكذا حصل الربط بين الحرب الداخلية التي شنها الأسد على شعبه، لإعادة إدخاله في قفص القنانة والعبودية الذي أراد الخروج منه، بمطالبته بالمشاركة السياسية، والحرب الإقليمية التي توقد فيها طهران، من أجل بسط سيطرتها وقيادتها على المنطقة، وفرض أجندتها القومية عليها، وتحويلها إلى قاعدة لانطلاقها نحو آفاق السياسة الدولية. وهكذا صار قتل الشعب السوري وتدمير وطنه تفصيلاً صغيراً وتضحية بسيطة في سبيل تكوين قوة إسلامية كبرى، مرهوبة الجانب، بحجم الهند والصين وروسيا وأميركا، تقودها طهران الإسلامية، ويلتف حولها أكثر من مليار ونصف مسلم.
ويكمن هذا الربط في أساس الكارثة الإنسانية والحضارية التي عرفتها سورية والمنطقة، منذ سنوات خمس. فبقدر ما قطع الطريق على أي انتصار للشعب السوري، ومنع من البحث عن تسوية، عزز إرادة القتال عند الجميع وعمّق الشرخ بين النظام والشعب، وحوّل الحرب من نزاع سياسي إلى حرب وجود، يلعب فيها كل طرف مصيره. وفي موازاة ذلك، فاقم الانخراط الإيراني الواسع في الحرب على الشعب السوري من مخاوف باقي دول المنطقة، ووضعها على شفا حرب نفوذ إقليمية، وأغلق أمامها طريق الحوار، وأدخل المنطقة في طريق مسدود، وفي حرب تدمير ذاتي ومتبادل، لا نهاية ولا أفق لها.
كما وجدت جميع القوى الإقليمية والدولية مصلحتها في تحييد الشعب السوري من قبل، لم يجد أي منها مصلحة كبرى في دعم الثورة السورية. فباستثناء ما يتعلق بإسرائيل وأمنها، لم يبد الغرب اهتماماً كبيراً بالحرب الدموية. وكان من مصلحة تل أبيب أن يدمر عالم الإسلام والمسلمين نفسه بنفسه، كما دمر عالم العرب نفسه بنفسه، منذ بداية الاستقلال في الصراع على موقع القيادة القومية، بين “البعث” والناصرية، وأن تفرغ الحرب إيران والعالم العربي من قوتهما مجتمعين.
ولم تكن روسيا أيضاً معنية بوضع حد لهذه المحرقة الإنسانية والحضارية التي قرّرت استخدامها ورقة للضغط على الغرب، وفرض إرادتها عليه في المحافل الدولية، وإذلاله انتقاماً لما تعرّضت له روسيا ما بعد السوفييتية من تهميش وإقصاء وإذلال.
وقد ساهمت موسكو، بقطعها الطريق في مجلس الأمن على أي تدخل إنساني لحماية المدنيين في سورية، في ظهور “داعش” ونموها، ودفع ملايين اللاجئين الهاربين من القصف بالبراميل المتفجرة في اتجاه الدول الاوروبية. وكانت تنتظر أن يتوسل الغرب مساعدتها، لوقف تدهور الوضع في سورية والمشرق. وهذا ما حصل بالضبط، بعد أربعة أعوام. وتشعر الحكومة الروسية، الآن، بأنها سيد اللعبة في سورية والمشرق، وهي التي تستطيع أن تفرض شروطها من أجل التوصل إلى تسوية تخدم مصالحها القومية، ليس في سورية فحسب، وإنما قبل ذلك في أوروبا نفسها. وهي تنتظر عروض الغربيين حول أوكرانيا، ومصير العقوبات المفروضة عليها، قبل أن تشرع بالضغط على الأسد، من أجل تقديم التنازلات التي لا حل سياسياً من دونها.
تريد موسكو، حسب مخططها المطروح الآن، أن تنهي الحرب، وتحقق الأمن والسلام في المنطقة، بتوطيد السيطرة العسكرية على سورية، وتوزيع الحصص على الدول المتنازعة عليها، حسب رؤيتها وتحالفاتها الدولية، في مقابل تحييد الشعب السوري، وإخراجه من المسرح وعلى حسابه. وهذا هو ما فعله الأسد الأب من قبل. لكن الفرق، مع ذلك، كبير بين سورية الأسد الأب، وسورية الأسد الإبن. فقد انكسر قفص العبودية إلى غير رجعة، ولن يمكن إعادة السوريين إلى أي بيت طاعة، حتى لو استخدم بوتين كل السلاح الروسي.
لن يحل السلام في سورية، ولن يمكن تحقيق أي تسوية بين القوى المتنازعة على تقاسم المصالح والنفوذ فيها إلا بأمرين: إعلان وصاية دولية قانونية تتصرّف بدل الدولة السورية وباسمها، وتمنع القوى المتنازعة من تقاسم سورية، حسب مصالحها والاستمرار في تفجيرها بالحروب المتقاطعة، أو قيام نظام سياسي قوي، يعزّز استقلال القرار الوطني السوري، ويضمن المصالح والحقوق المشروعة لجميع الدول المعنية، في الوقت نفسه. ولن يكون بالإمكان بعد الآن قيام نظام سياسي قوي وسلطة موحدة وسيدة في سورية، من دون كسر منطق إقصاء الشعب وإبعاده عن السياسة وتهميشه وتحييده. فالبديل الوحيد عن نظام الاستبداد والتمييز الطائفي والإقصاء الذي عرفته سورية في العقود السابقة للثورة، وعن الوصاية الدولية، هو نظام سياسي سوري بقاعدة شعبية عريضة، نظام الشعب الحر، المستعد للموت في سبيل وطنه، والمتمسك باستقلاله وسيادته، والقادر على إخضاع المصالح الإقليمية جميعاً إلى مصالح سورية العليا في الوحدة والاستقلال والأمن والتنمية الإنسانية.
يحتاج هذا إلى الاعتراف بحقوق الشعب السوري، والعمل معه، لتحقيق تطلعاته المشروعة في الكرامة والحرية والعدالة، وتطمينه على مصيره قبل أي شيء آخر. أما مراهنة روسيا على مضاعفة العنف، من أجل كسر إرادة السوريين، وفرض الوصاية الروسية عليهم، وإقامة نظام عميل مع الأسد أو بدونه، تابع لها، ويخدم مصالحها، كما هو واضح من سياستها حتى الآن، فلن تقود، حتى لو جاءت بدعم ضمني من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، إلا إلى مزيد من إشعال النار وامتداد دائرة الحرائق، وتمديد أمد الحرب. فهي لا تعني شيئاً آخر سوى تحول روسيا إلى قوة احتلال، تصادر حق السوريين في تقرير مصيرهم، وتقضي على أملهم في تحقيق تطلعاتهم نحو الكرامة والحرية، وتضاعف من مشاعر العداء والحقد والانتقام تجاه كل من تدّعي روسيا العمل على حمايتهم وتأمينهم.
المصدر : العربي الجديد