يسود الغموض بشأن هوية الحل السياسي في سورية، والذي يعلن الجميع إيمانهم به، واعتقادهم بحتميته، بمن في ذلك الساعون إلى حل عسكري صرف، أمثال بشار الأسد وقادة إيران وبعض المسؤولين الروس.
يقول المتابعون إن هناك حلين محتملين للصراع السوري، عسكري وسياسي. وبما أنهما يُفهمان كحلين ينفي أحدهما الآخر، وبما أن الحل العسكري يتطلب انخراطاً مباشراً للقوى الدولية والإقليمية في القتال بعضها ضد بعض، وهو ما لا تسمح علاقاتها وأوضاعها به، فإن الحل العسكري لن يحقق مصالح الدول، وتحتم استحالته البحث عن حل سياسي، ينهي الصراع، ويطوي صفحته، على أن تتبناه جميع الأطراف، وتضع نفسها في خدمته، ولا تسمح للعمليات العسكرية بتقويض فرص نجاحه.
ومع أن هناك توافقاً تاماً على تصور للحل، ضمنته الدول الخمس الكبرى في وثيقة جنيف 1، وفي قرار دولي حول آليات تطبيقه رقمه 2118، فإن الحل السياسي صار إشكالياً إلى أبعد حد، لأن هناك من يعلن رغبته فيه، لكنه يفعل المستحيل لإفشاله، لاعتقاده أن انتصاره العسكري يعيد إنتاج نظامه وعلاقاته السابقة مع السوريات والسوريين، بينما يرغمه الحل السياسي على تقديم تنازلات والوصول إلى حلولٍ وسط تلبي، ولو جزئياً، في المرحلة الأولى، مطالب الثورة، وتفضي، في نهاية الأمور، إلى تغييره. لذلك، يرفض الحل، ويستخدم القوة، وصولاً إلى حل أمني/ عسكري، يجنبه الرضوخ لما طالب الشعب به في مظاهراته.
لماذا يصر الكبار على الحل السياسي خياراً وحيداً، يجب أن يترتب على حرب ضروس، تدور منذ أربعة أعوام في سورية؟ الجواب:
ـ لأنه الوحيد الذي يتيح حلاً وسطاً، يحافظ على مكونات جوهرية في النظام، تطاول إدارته ورموزه ومؤسسته العسكرية/ الأمنية، وعلاقاته الأمنية المميزة مع إسرائيل، وطابعه الطائفي، وهويته نظاماً معادياً للديمقراطية وللإسلام السياسي، ودوره الرقابي والتدخلي/ العدواني في البلدان المجاورة وكامل إقليم الشرق الأوسط … إلخ. لو كان العالم الخارجي يريد للنظام الزوال، لوافق على حل عسكريٍّ، كان في متناول الثورة مرتين: واحدة قبل تدخل حزب الله عام 2012، والثانية قبل الغزو الروسي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ـ ولأن التزامات الحل العسكري كانت ستفرض على أميركا وأوروبا والبلدان العربية سياسات مختلفة في المسألة السورية، مثل إمداد المقاومة المسلحة بما يضمن إسقاط النظام، وبالتبعية: إنزال هزيمة ميدانية بروسيا وإيران، مع ما تتطلبه من دور عسكري غربي/ عربي كثيف ومباشر في الصراع.
ـ ولأن الحل العسكري كان سيتطلب الإقرار بأهمية القرار الوطني السوري المستقل، وأولويته، في إدارة القضية السورية ومعاركها، والتسليم بحق السوريين في تحديد نمط النظام الذي يريدونه في الفترة التالية لإسقاط النظام بالقوة، ولرحيل رئيسه وبطانته عن السلطة.
ـ ولأنه يبدو أن العالم توافق على تبني نسخة معدلة من الحل الذي قدمه في وثيقة جنيف 1: عنيت الانتقال إلى نظام ديمقراطي هدفاً للعملية السياسية. هل يعود سبب الانزياح عن جنيف إلى رفض إسرائيل، وبعض بلدان الخليج، الهدف الذي حدّده، وقرّرت روسيا وأميركا، في فيينا 2، استبداله بنظام علماني، سيأخذ فرضه سورية إلى مشكلات هي في غنى عنها، تنتجها إشكاليات العلمانية واختلاف السوريين عليها، ورفضها من قطاعات شعبية واسعة.
ولأنها ليست نظاماً يفرض بقرار، بل ستكون نتاج سيرورة تاريخية، تترتب على ثقافة ديمقراطية ومفتوحة، ومستوى تطور ووعي بلغ درجة من التقدم، يفتقر مجتمع سورية الحالي إليها. باستبدال الديمقراطية بالعلمانية، ثم بحكم جامع وذي مصداقية ولا طائفي (القرار 2254)، يتم استبدال نظام يقوم على التسويات والحوار والحلول الوسط والتوسطات التدرجية، ويستجيب لأوضاع توازنات القوى تقدماً وتراجعاً، بنظام آخر يخلو من هذه الآليات، سيكون محل صراعات في سورية الآتية، هي نقيض ما تحتاج إليه من آليات ديمقراطية، لجسر تباينات وتناقضات القوى المنخرطة في مقاومة النظام، وخصوصاً الإسلامية والديمقراطية منها، التي سيتوقف على تفاهمها نجاح النظام ما بعد الأسدي وفشله.
ـ وأخيراً، لأن العالم لم يقرّر بعد إسقاط النظام من جهة، وإعطاء الشعب السوري حقوقه كاملة من جهة أخرى، وأدخل في روعه أن إسقاط النظام سيعني سيطرة الإرهابيين على السلطة والبلد. لذلك، قرّر إجبار الطرفين المتصارعين، الأسدية وخصومها السياسيين وجيشهم الحر، على القبول بحل “لا يموت فيه الذئب ولا يفنى الغنم” كما يقول لساننا الشعبي، يجمع السلطة إلى المعارضة في عملية تتراوح بين احتواء الثانية في الأولى (كما يريد الروس)، وجمعهما على طريق تقاسم مواقع ومناصب، تمهيداً لتغيير تدريجي، يحول دون سقوط النظام بيد داعش وأضرابها (عند الأوروبيين وجزئيا الأميركان).
هذه هي حدود حسبة الحل السياسي. هل سينجح حل هذه صفاته، ابتلع هدف مرحلة جنيف الانتقالية (الديمقراطية) وأداته (الهيئة الحاكمة الانتقالية) وضماناته الدولية، وتجاوز معضلة الأسد الذي يبدو أنه سيعود من الشباك إذا أخرج من الباب؟ وهل سيكون في وسع المعارضة مواجهته إنْ بقيت على أوضاعها الحالية؟. لا أعتقد. هل سيكون في وسعها تحسينه على النحو الذي تريده، إنْ حافظت على حالها الراهنة؟ هذا احتمال مستبعد جدا بدوره. أخيراً: هل ستتمكن من الصمود في وجه ما قد تتعرض له من ضغوط؟. هذا هو السؤال الذي تمس حاجتنا إلى رد وطني عليه، يضمن حقوقنا كسوريين وحرياتنا، ويخلصنا من البلاء الأسدي.
المصدر : العربي الجديد