مقالات

نجاتي طيارة – الملح والسياسة في الوقائع السورية

لا جديد في القول إنه، على الرغم من قرار مجلس الأمن الجديد بشأن سورية، وتبشيره بحل سياسي، يقوم على أساس قرار جنيف وبيانات فيينا، فإن النظام السوري وحلفاءه يتابعون سياسة أخرى، بغض النظر عن أي تأثيرعلى ذلك الحل، ومجمل التحركات السياسية والإعلانات الدولية بشأنه. وهما، أي النظام وحليفه الروسي خصوصاً، يستفيدان بوضوح، في ذلك، من الأولوية المرفوعة عالمياً لشعار الحرب ضد الإرهاب، ولا سيما بعد هجمات باريس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

الجديد أن هجمات الحليف الروسي وضرباته الجوية، المستمرة منذ حوالي أربعة أشهر، في إطار تلك السياسة، ينكشف أكثر فأكثر أنها تطاول المدنيين، وقد بلغت درجة من الفظاعة والقتل والتدمير، دفعت منظمة العفو الدولية، على لسان ممثلها في لندن، فيليب لوثر، إلى حد اعتبارها قد ترقى إلى جريمة حرب، بعد أن تجاوزت كل الأعراف والقوانين الدولية في قتل مئات المدنيين والتسبب “بدمار هائل” في سورية، وذلك “في نمط هجماتٍ يُظهر أدلة على وقوع انتهاكات للقانون الدولي الإنساني”. وقد وثّقت منظمته “أدلة تشير إلى استخدام روسيا الذخائر العنقودية المحظورة دولياً، والقنابل غير الموجهة في مناطق سكنية مكتظة”. 

وبحسب تقريرالمنظمة، “لم تكن هناك أي أهداف عسكرية، أو مقاتلون، في المحيط المباشر للمناطق التي ضُربت”. ويكمل وهذا الاستهداف المنصب على المدنيين ما جاء في عشرات التقارير العسكرية الغربية التي ما فتئت تشهد أن معظم الهجمات الروسية تنصب على مواقع المعارضة المعتدلة، في الوقت الذي لا تستهدف فيه بصورة جدية قوات داعش والمناطق التي تسيطر عليها، الأمر الذي يؤكد صحة الزعم القائل بفائدة بقائها استثماراً ضرورياً في تحشيد التحالف المصطنع ضد الإرهاب.

بذلك، يبدو أن ضرب المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المعتدلة يكمل ما يحققه ضرب مواقع تلك المعارضة، وهما وجهان لخطة واحدة، يبني بواسطتها النظام “سورية المفيدة” لسيطرته العسكرية والمجتمعية معا. وإن كان الوجه الأول لهذه الخطة يسعى إلى تغيير ميزان القوى العسكري بين النظام والمعارضة وقوى الثورة، فوجهها الثاني ينصب على استعادة السيطرة على المناطق الثائرة، وبؤرها المجتمعية في المدن والقرى المختلفة، حتى لو تطلب ذلك القيام بهدن، تسمح بخروج الآلاف من مقاتلي جبهة النصرة و”داعش” مع عائلاتهم إلى الشمال والرقة، كما حدث عقب اتفافيتي الوعر وريف دمشق، ما يكمل مسعى تغيير البيئة السكانية الذي بدأ بالتهجير والإبادة، ولينتهي باستعباد الباقين وإخضاعهم.

ومن أجل تحقيق أهداف الوجه الثاني، عمل النظام كل ما في وسعه لتنفيذ ما سمّاها المصالحات الوطنية التي أفرد لها وزارة خاصة. ومع ذلك، تحققت بعض إجراءاتها خارج عمل هذه الوزارة، وتحت إشراف المفوضين الإيرانيين، كما ظهر في مفاوضات فك الحصار عن حمص القديمة والوعر، أو تحت إشراف المفوضين الروس، كما في المفاوضات، أخيراً، بشأن غوطة دمشق وريفها.

وفي تفاصيل هذا الجانب، جاءت هذه المصالحات، وما جرى ويجري في إطارها من هدن واتفاقات، دوماً بعد حصار شامل، فرضه النظام على المناطق الثائرة، تحت شعار الجوع أو الركوع، والذي استمر أحياناً حوالي السنتين، كما في حصار حمص القديمة، أو متقطعاً خلال سنتين أو أكثر، كما في حصار الوعر والمعضمية والزبداني وغيرها. وهو حصار يتنافى مع قرارات الشرعية الدولية وقانونها الإنساني، كما يتناقض، بصورة فاضحة، مع أي ادعاء وطني لنظامٍ يمنع كل طعام ودواء عن شعبه، ويجبره بالجوع على الركوع والخضوع لمصالحته. وكل ذلك ليس خافياً على أحد، بل يحدث علناً، وتحت سمع العالم وبصره، في عصرالإعلام المفتوح.

لكن أهم ما يحدث في إطار ذلك، ولعله يعبّر عن واقع توظيف النظام وحلفائه فزّاعة الإرهاب في تغطية أهدافهم الحقيقية، فهو السماح بخروج مقاتلي منظمات الإرهاب، وبأسلحتهم الفردية مع عائلاتهم وحاضنتهم الاجتماعية، ثم انتقالهم بواسطة حافلات النظام، وبحضور ممثلي مكاتب الأمم المتحدة، إلى مراكز سيطرة تلك المنظمات في الشمال وشرقي سورية. وبذلك، يتم تعزيز تلك المنظمات وتنميتها علناً، تحت ستار التوافق مع خطة مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان ديمستورا، للتهدئه وتجميد النزاعات محلياً.

وفي حين لا يتوفر أي توجه جدي للصدام مع تلك المناطق، تركّز المجهود الحربي للنظام وقصف حليفه الروسي على مناطق المعارضة المعتدلة، ما سيؤدي عملياً، إلى إخراجها من المعادلة وإغلاق باب الحل السياسي، وكل حديث عن تفاوض بشأنه. الأمر الذي برز، أخيراً، بعد توصل ذلك القصف إلى قتل أبرز قادة جيش الإسلام، وفي مقدمتهم زهران علوش، وهم الذين كانوا قد انضموا رسمياً إلى المعارضة المعتدلة، وشاركوا في مؤتمر الرياض، استعداداً للمساهمة في ترتيبات الحل السياسي ومفاوضاته.

أما الجانب الأكثر سواداً في مصالحات النظام المزعومة، والذي يعبّر بصورة مختصرة وشديدة الرمزية عن مستوى الفظاعة والوحشية التي انحدرت إليها ممارسات النظام، فهو استخدام سلاح الملح في الحصار، أو في مراحل فكه وبناء مصالحاته الوطنية المزعومة، وصولاً إلى استعادة سيطرته على مجتمعات المناطق الثائرة.

ولا مبالغة في استخدام تعبير سلاح الملح، فالنظام عندما يبدأ فك الحصار عن منطقة ما، بموجب اتفاقية هدنة تم التوصل إليها عبر مفاوضات طويلة وشاقة، وبحضور رمزي، أو مساند، لمكاتب الأمم المتحدة، وبمشاركة مفوضين إيرانيين وروس، كما سلف ذكره، فإنه يسمح بصعوبة لدخول بعض شاحنات الإغاثة من مواد تموينية وأدوية، لكنه لا يسمح، إطلاقاً، بدخول مادة الملح التي لا يمكن للجسم البشري الاستغناء عنها، كما لا يمكن حفظ وتخزين مواد غذائية كثيرة بدونها. ومع ذلك، يتم منعها بذريعة إمكانية استخدامها في تركيب متفجرات بدائية. وذلك ما جرى في مثال تطبيق اتفاقية الوعر في حمص منذ أوائل ديسمبر/كانون الأول الجاري.

وبمنع الملح، ينسف النظام رمزياً أحد أهم الأسس الراسخة في الثقافة الشعبية السورية حول بناء العلاقات المجتمعية وتعزيزها، وهو الأساس الذي يقوم على المشاركة في الخبز والملح، ويتابع بذلك ما قام به من هدم التركيبة الوطنية للمجتمع السوري التي يجري، الآن، تقسيمها، وتقاسم سورية حولها وفق أحدث الذرائع الروسية لمكافحة الإرهاب، في مسارٍ تبدو فيه الوقائع أبعد ما تكون عن بريق السياسات وإعلاناتها. 

المصدر : العربي الجديد 

زر الذهاب إلى الأعلى