مقالات

عبد الناصر العايد – الزمن إذ يتسرّب من أصابع بوتين

تعمل روسيا بسلاحها الجوي، وبأقصى درجات الفتك، على شق الطريق لتقدّم قوات النظام السوري، وتتلاعب على التناقضات البينية لفصائل المعارضة، للاستفراد بها واحدة تلو الأخرى، وتتحاشى خوض معركة شاملة قد توحّد تلك الفصائل.

وقد نجح هذا التكتيك في الضغط على أكبر المكونات العسكرية في الشمال وهو جيش الفتح، الذي أرغم على الانكفاء عن جبهة الساحل الخطرة، والتوجه للقتال في منطقة صحراوية مكشوفة مواتية لعمل الطيران، هي جنوب حلب. ويتم التعامل بطريقة مشابهة مع جيش الإسلام، الفصيل الأكبر في ريف دمشق، لكن بتأنٍّ وبأدوات أمنيّة، نظراً الى حساسية وضع مدينة دمشق، وأخاطر المجازفة بعمل عسكري واسع في محيطها، بينما تتلمس جبهة الجنوب لمعرفة مكامن الهشاشة فيها واختراقها، وعموماً يأمل المخططون الروس بأن يؤدي انهزام كبرى الفصائل المقاتلة، أو حشرها في وضعية الدفاع الدائم عن النفس، إلى انهيار الفصائل الأصغر، ودفعها الى الاستسلام والرضوخ، وبخاصة فصائل الجيش الحر، ذات القيمة السياسيّة العالية، إذ تعتبرها دول عدة البديل الممكن والمقبول لنظام الأسد في المعركة ضد التطرف.

وفي الدائرة الإقليمية، تحاول موسكو أن تلعب أيضاً على تضارب مصالح دول الشرق الأوسط، كحجب صورة إيران عن المشهد الحالي، والإيحاء بإخراجها منه، لاسترضاء بعض الأطراف العربية ودفعها الى التعاون مع موسكو بتقليص دعمها المعارضة، ومناكفة تركيا وتهديدها لردعها عن تقديم العون عبر الحدود، وإدخال عناصر جديدة على المعادلة الجيوسياسية كالأكراد، وذلك كله بهدف تمزيق شبكة التضامن والإسناد الإقليمية للثورة السورية، وخنقها بحرمانها من متنفّسيها العربي والتركي.

لكنها تتجاهل في مجمل خططها وعملها العسكري، تنظيم «داعش» الذي جعلت القضاء عليه عنواناً لتدخّلها، وبدلاً من مهاجمته تروّج لحل سحري يتلخص في مقولة: ادعموا بشار الأسد ليقف على قدميه مجدداً، وهو سيتكفل بإفناء «داعش».

ويشكل عامل الزمن أخطر التهديدات لنجاح خطة موسكو، وتحاول أن تجرّ الأطراف كافة إلى سباق مسافات قصيرة تتمتع فيه بأفضل فرصة للفوز، وتطمح إلى جعل نتومفاعيله دائمة، قبل أن تتغير الظروف والمعطيات. فالتدخل الروسي جاء في لحظة تاريخية فريدة تتّسم بانعدام الاهتمام الدولي، والفراغ الجيوسياسي الناجم عن تصادم القوى والإرادات الإقليمية في الشرق الأوسط، ووصولها إلى مستوى الإنهاك وتوازن الضعف، وقبول الساحة لأي تدخل خارجي وبأقل الكلف، فقد دخل الروس إلى وسط الحلبة وتسيّدوها من دون مقاومة تذكر سوى من الجانب الإسرائيلي، الذي أذعنت موسكو لاشتراطاته ومطالبه كافة مسبقاً، فيما التزمت معظم الأطراف الأخرى الصمت والانتظار.

لكن الزمن بدأ يتسرّب من أصابع بوتين يوماً بعد آخر، وتصبح لحظة انقلاب الرياح المواتية حتى الآن أقرب فأقرب. ففي الشقّ العسكري تمضي الأمور على النحو المتوقع، كأي حرب عصابات لا يمكن أقوى جيوش العالم أن تحسمها، والحرب الروسيّة على ثوار سورية محكومة بالتفوّق الجوي، الذي لا يستطيع أحد أن ينكر قدرته على منع الفصائل المقاتلة المحرومة من امتلاك مضادات الطائرات من إحراز نصر حاسم، وأنهم لا بد من أن يختفوا طالما كانت أسراب الطائرات تحلّق على ارتفاعات شاهقة فوقهم، لكن لا أحد يستطيع إنكار أن الطائرات لا بد من أن تهبط، ليظهر المقاتلون مجدداً ويستعيدوا السيطرة على الأرض، مرة وراء مرة.

وقد لا تبقى الحال عسكرياً على ما هي عليه الآن، فكلمة السرّ في الميدان العسكري اليوم هي مضادات الطائرات، التي تقلب معادلته رأساً على عقب، وتعري الروس من ورقة القوة الوحيدة التي ما زالت القوى الإقليمية والدولية تحتفظ بها وترهنها بسلوك موسكو وحكمتها في إدارة العملية على الساحة السورية وحولها، ولا يبدو أن الأخيرة ستنجح في تجاوز هذا التحدّي.

فقد بدأ يتكشّف تدريجاً أن الكعكة السورية صغيرة، ولا تكفي لإسكات الفرقاء كافة، بخاصة إذا ما كانت موسكو التي تقوم بتوزيع الحصص تطمح إلى الاستئثار بنصيب الأسد منها، وسيضع المتضررون العصي في العجلة الروسية تباعاً، وهي السياسة التي أعلنتها تركيا من دون مواربة، ويبدو أن أطرافاً عربية بدأت تستعد لإعلان شروطها بالتزامن مع تورط تلك العجلة أكثر في رمال الشرق الأوسط، وستطبق تعقيدات المنطقة المتشعبة والشائكة على الدّب الروسي، وتربك حساباته كافة، ابتداءً من الميدان العسكري الذي سيكون موضع استنزاف سياسي حتى لو لم تكن هناك هزيمة عسكرية. فعجزها كقوة عظمى عن الحسم هزيمة في حدّ ذاته، وستكسب مزيداً من الأعداء الإقليميين، مع إصرارها على شق الطريق لرؤيتها فوق مصالح الجميع ورغماً عنهم، وعلى قائمة الخسارات المحتملة حليفتها الأولى طهران، التي تم التضحية بمصالحها على المذبح الإسرائيلي، وقد يتم التنازل عن المزيد من حصتها الاستراتيجية الموعودة للجانبين العربي والتركي، لاتقاء تهمة الانحياز إلى خصم تاريخي، والعبث بتوازنات القوى في الإقليم.

المصدر : الحياة 

زر الذهاب إلى الأعلى