الجريمة متمادية في سوريا، لم تعد عمليات التدمير الممنهج عبر براميل الموت، وتدمير المنشآت والأبنية وتهجير ملايين السوريين طيلة السنوات الأربع الماضية كافية، ثمة محاولات جديدة لقتل روح السوريين ودفعهم للاستسلام، سياسة التجويع والحصار باتت وسيلة من وسائل كسر العنفوان السوري، مضايا هي النموذج الصارخ لوأد الناس المحاصرين، ليس المسلحون منهم، بل المواطنون العاديون من أطفال ونساء وشيوخ. التقارير التي صدرت عن العشرات من المؤسسات الإنسانية والدولية والأهلية، تصف أوضاع مدينة مضايا القريبة من الحدود اللبنانية بأنها حالة مأساوية بسبب منع دخول الغذاء والدواء.
يعرف حزب الله أن من شوّه صورة المقاومة هو قيادة حزب الله. صور الأطفال الذين لم يعد في أجسادهم سوى العظام والجلد، الصور التي تذكرنا بالمجاعات الأفريقية نهاية القرن الفائت، هذه الصور لم تفبرك لتشويه صورة المقاومة.
يتصرف حزب الله على أنّ “صورة المقاومة” هي مركز الكون. يتصرّف بنرجسية الأطفال ووحشية الكبار. أصدر بيانا يردّ به على من عابوا عليه محاصرة مضايا وتجويع أطفالها، فاعتبر أنّ اعتراضات الجائعين والغاضبين من قتل العشرات بسلاح الجوع، ليست إلا “حملة مبرمجة بهدف تشويه صورة المقاومة”.
هناك اتفاقات تحمي المدنيين خلال الحروب. دعوا الاتفاقات جانبا، دعوا الدين وقيم عاشوراء ودعوا الأخلاق جانبا، من كتب، أو كتبوا، هذا البيان، ألم يخطر في بالهم لحظة أنّ طفله، أو أطفالهم، قد يقعون في حصار مشابه؟
بيان حزب الله المعيب أضاف أنّ “الجماعات المسلحة التي تتخذ من مضايا رهينة لها، ولداعمي المسلحين من جهات خارجية هي من يتحمل مسؤولية ما يجري في البلدة”.
هل هناك وقاحة أبعد من هذه “الجماعات المسلّحة الإرهابية تستخدم السكان، الذين لا يتجاوز عددهم 23 ألف نسمة، كدروع بشرية، وورقة سياسية يستغلونها الآن في حملة إعلامية كاذبة مثيلة بسابقاتها في مناطق أخرى… ولا صحة للأخبار التي تدعي وجود حالات وفاة”.
هل هكذا يمدّ حزب الله جمهوره بالحجّة للردّ على “حملة إعلامية كاذبة”؟ أليست هذه لغة الإسرائيليين حين يفتكون بالعرب؟ يتّهموننا بالكذب والتضخيم، حين نموت حرقا وقصفا وجوعا وحصارا، من غزّة إلى جنوب لبنان، منذ 1948 إلى اليوم.
لا يخشى حزب الله إلا على صورة المقاومة، على صورة تلك الفكرة الجميلة الشابة، التي كانها، وقد صار اليوم عجوزاً يشرب دماء من يعارضونه ويجوّع أطفال من يرفضون ترك أرضهم له “عدد كبير من السكان يحاول الخروج من مضايا غير أنّ قادة الجماعات المسلحة ترفض ذلك… وهناك مفاوضات لتسليم 300 مسلحٍ أنفسهم إلى السلطات والخروج من مضايا مقابل رفض مسلحين آخرين للموضوع بسبب قرار سياسي خارجي”.
بصراحة قلّ مثيلها، يعترف حزب الله أنّه يشترط على الجائعين تسليم أنفسهم والاستسلام “غير أنّ قادة الجماعات المسلّحة ترفض ذلك”. يعيب على المسلّحين بطولة قامت عليها أسس التشيّع، وهي الشهادة وعدم الاستسلام، فهو قرّر، بدل القتال، أن يجوّع 40 ألف مدني ليقضي على 600 مسلّح.
يقول البيان “تتحكم في بلدة مضايا مجموعات مسلحة حيث يبلغ عدد المسلحين أكثر من 600 مسلح يتوزعون، 60 في المئة من حركة أحرار الشام، و30 في المئة من جبهة النصرة وعشرة في المئة من الجيش الحرّ”، لافتاً الانتباه إلى أن البلدة باتت تعتبر “رهينة للجماعات المسلحة منذ أشهر عندما اشتدت المعركة في الزبداني، وبعدما قاموا بعمليات ذبح عدة ضدّ حواجز الجيش السوري عند مدخل مضايا”.
600 مسلّح، لا بأس أن يموت 10 أو 20 ألفا من الأطفال والنساء والرجال للقضاء عليهم. هو المنطق الإسرائيلي نفسه الذي دمّر لبنان ذات صيف من العام 2006 لتحرير جنديين أسرهما حزب الله.
من يشوّه صورة المقاومة؟ الجائعون وقد صرخوا ونشروا صور أطفالهم وقتلاهم أو حزب الله الذي أسكرته الدماء وما عاد يميّز الحقّ من الباطل؟
وفي هذا السياق، أطلقت مجموعة من الشخصيات والناشطين اللبنانيين من الطائفة الشيعية “إعلان مضايا” ومنها: مالك كامل مروة، وعلي محمد حسن الأمين، ومصطفى هاني فحص، ووقعت عليه حتى مساء الأحد الفائت (10 يناير 2016) نحو 500 شخصية وناشط، من اللبنانيين عموما وجاء في نص الإعلان: أمام هول الكارثة المتمادية في سوريا، وحيال جسامة المخاطر التي تتهدد مصيرها، وحياة أهالي مدن وقرى بكاملها، وأمام فظاعة سياسة القتل والحصار التي يفرضها النظام وأعوانه على الأهالي حتى الموت، وانطلاقا من الحسّ الإنساني والمسؤولية العربية، والأخوة الإسلامية والتاريخية، نرفع صوتنا متضامنين مع أهالي بلدة مضايا ونرفض منطق التجويع والقتل والحصار والتركيع. ونعلن ما يأتي:
أولا: ندين بالمطلق منطق “توازن الموت” ونهج الحصار، خصوصاً حينما يأخذ هذا البُعد المأساوي بفرض الحظر على الغذاء والماء والدواء لتحقيق غايات سياسية. ونعتبر ذلك تجاوزا لكل القيم الإنسانية والمفاهيم العربية، ومواثيق حقوق الإنسان.
ثانيا: نرفض أن يشارك لبنانيون في عمليات القتل والحصار ضد أهلنا في سوريا تحت حجّة “القضاء على الإرهابيين”، وهو المنطق الإسرائيلي عينه الذي تمارسه إسرائيل ضد المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين منذ عقود.
ثالثا: اعتبار إعلان النظام السوري قبوله بإدخال الأغذية إلى مضايا ثم تراجعه، إثباتا لوقائع جرائم موت الناس جوعا في مضايا طبقا لما نشرته وسائل الإعلام والتواصل من فظائع وارتكابات مهينة بحق الإنسانية. وكان بيان الإعلام الحربي في “حزب الله” أكّد في 7 يناير تورطه في حصار التجويع للبلدة وجوارها.
رابعا: إننا نرفض تحميل ما جرى ويجري من تبعات ونتائج لمجموع الطائفة الشيعيّة، ونحمّل المسؤولية لمن يفتعل هذه الجرائم حصرا. ونُعلن براءة الشيعة من “الهولوكوست” السوري وتبعاته ونتائجه. وهذا مرفوض من الشيعة ومدان بكل المعايير.
خامسا: نطلب انسحابا فوريا للمسلّحين اللبنانيين المتدخّلين في الحرب السورية إلى جانب النظام، وخصوصاً من المناطق المحاذية للأراضي اللبنانية كالزبداني والقلمون. ونعتبر أن ما يجري هو اقتلاع لأبناء تلك المناطق لصالح تغيّرات ديموغرافية خبيثة تدمّر وحدة النسيج الاجتماعي والتاريخي بين الشعبيْن السوري واللبناني، وتمسّ علاقات حسن الجوار والحياة المشتركة لعشرات الأعوام المقبلة. وعليه لا نقبل مشاركة أيّ لبناني في هذه الجرائم البشعة.
سادسا: ندعو إلى تفعيل الحل السياسي، الضامن لوحدة سوريا وشعبها، وانسحاب كل القوى المتدخّلة في الشأن السوري، وترك الشعب السوري، بأطيافه، وتشكيلاته يقرّر مصيره وحريّته.
هذا البيان الذي يعبر عن تضامن لبناني واسع ضد المجزرة الإنسانية التي ترتكب بحق السوريين عموما وأهالي مضايا، جاء أيضا في سياق الرد على استهزاء البعض بمأساة أبناء مضايا، وردا على حملات الصور المسيئة على شبكات التواصل الاجتماعي ضد مضايا، والتي تعكس تصرفات سادية كما وصفت صحيفة الأندبندنت قبل أيام من قام بها.
المصدر : العرب