عاد موضوع الإصلاح الديني في الإسلام إلى الواجهة مرة أخرى بعد العملية الإرهابية في باريس التي قام بها عناصر من تنظيم الدولة الإسلامية في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، على أساس وجهة نظر مفادها أن كبح خطاب العنف والكراهية والحرب الدينية مع العالم الذي تتبناه الحركات الراديكالية (السلفية الجهادية منها على نحو أخص) يتطلب تغييراً عميقاً في الفكر الديني وفقهه و»إصلاحاً دينياً ينزع الشرعية عن شروحات النصوص الدينية التي تسمح بإجازة القتل باسم الله».
يستبطن هذا المطلب في الواقع تسليماً بأن المشكلة الرئيسية تكمن في الدين ذاته وتفسيراته في الحد الأدنى، لكن هذا الإقرار لدى الكثيرين لا يخلو من مشكلات تحتاج إلى تدقيق وفحص، فالواقع أن الخطاب الذي تتبناه الحركات الجهادية السلفية في الأساس هو خطاب سياسي مركَّب على ما بات يعرف بـ»الأزمة السنية»، والذي يتلخص في تهميش الأكثرية السنية وحرمانها من تحقيق تطلعاتها بحرية عبر تسليط أنظمة أقلوية أو ديكتاتورية تعمل على خنقها وخنق فرص التنمية فيها، بما يشكل ويولد رؤية للعالم مشحونة بالمؤامرة الكونية، يتفرع عنها بالطبع أزمة هوية. إذ يجد المسلمون السنة في هويتهم نوعا من الحفاظ الوجودي لهم في مواجهة أوضاع لا تتسم بالاستقرار ولا تسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم على مستوى السياسة والحياة العامة.
لكن أين الدين في كل هذا؟ واقع الأمر أن هذا الوضع السياسي تشتق منه الحركات الراديكالية الجهادية خطاباً سياسياً يستمد قوته من أربعة عناصر: المطابقة مع المخيال العام المتشكل حول أزمة السنة السياسية، والوضوح الشديد في التعبير عنها، والتعبير عن الهوية بشكل حاسم (الإسلامية السنيِّة)، والمقاومة وعدم التسليم للأوضاع الحالية وتغييرها بالقوة كما هي مفروضة بالقوة.
واقع الحال أن كل ما سبق هو عمل سياسي بالمعنى المباشر، وحتى يتحول إلى فعل لا بد من منحه الشرعية من داخل المنظومة؛ لأن فعل القوة يتطلب تضحية ويتطلب إيماناً عميقاً، هنا يأتي دور الدين، حيث تركب المفاهيم الدينية العقدية والأحكام الفقهية (التي في طبيعة الحال موضوعها هو الفعل الإنساني) والتراث التاريخي على الرؤية السياسية، ويتم انتقاء مجموعة من الاجتهادات الفقهية المناسبة وعند الحاجة إلى تفصيلها على مقاس الرؤية السياسية، فعلياً الدين هنا يستخدم بشكل وظيفي، ويستدعى كأداة لتلبية احتياجات منظومة سياسية من الشرعية ومنحها الصلابة الأيديولوجية اللازمة للفعل، ويحتاج هنا للرموز التاريخية للقيام بوظيفتين: بعث الهوية على نحو يجردها من الزمان الحاضر، ومنح الفاعلين الحماس اللازم للفعل بدون أي تردد.
على هذا الأساس تتشكل الأيديولوجيا السلفية الجهادية وتتحول إلى فعل (وهو بالمناسبة ينطبق إلى حد كبير على جميع الحركات الراديكالية الدينية في العالم )، وما دمنا نتحدث عن أيديولوجيا تؤمن بالقوة أساساً للتغيير فإن مفهوم الموت والتضحية يحتلان الصدارة بين عناصر سلم القيم، ويتحول مفهوم الأعداء إلى جماعات تتحدد هوياتهم بالوصف العام لا بالتحديد والتعيين، بهذا المعنى يتم تحديد الأعداء سياسياً بالاستناد إلى المفاهيم الدينية لإضفاء الشرعية على الممارسة تجاهها، بين كفار ومرتدين وصحوات (عملاء وخائنين)، ويصبح الهدف السياسي الأعلى (إقامة الدولة السنية) هو هدف ديني أعلى يكون كل عمل في سبيله مقدسا ومغفورا كل ما دون ذلك ما دام الهدف الأعلى هو الموجه.
إذاً هل المشكلة دينية حقاً؟ بهذا المعنى المشكلة سياسية، ومن التجديف التغاضي عن المشكلة والمضي وراء الأدوات، فالدين لم يكن سوى أداة موظفة في إطار صراع سياسي، من نافلة القول إن هذه الأيديولوجيا السياسية بدأت بالتشكل مع انهيار الخلافة العثمانية وظهور ما سميته من قبل بـ»لاهوت الخلافة» بظهور الدولة الوطنية التي أدارتها نخب من نتاج الحقبة الكولونيالية.
ولكن انفجارها على هذا النحو المريع يرجع أولاً إلى ظهور الدولة الإسلامية في إيران عام 1979، وما تلاه من تمديد لنفوذها عبر استراتيجية تقوم على خلخلة المجتمعات السنية وبالاستعانة بالأنظمة التي تعاني منها هذه المجتمعات، أي استغلال معاناتهم السياسية وفرض نفسها في مجتمعاتهم بما يشبه الاحتلال الناعم وخلق بؤر شديدة التوتر، لكن ما كان لهذه السياسات أن تولِّد تحولاً إلى نمط داعشي (وهو أعلى أنماط الحركات الإسلامية العنفية) لولا احتلال العراق عسكرياً من قبل الولايات المتحدة، والذي سمح لإيران باحتلاله سياسياً واستتباعه عبر حرب إخضاع طائفية استخدم فيها كل ما تستخدمه داعش اليوم من أساليب وحشية وأكثر بكثير، على سبيل المثال استخدم القتل التدريجي بالمثاقب والمناشر والإذابة بالأسيد، وذُبح الأطفال الرضع بالمديات والسكاكين أمام أهاليهم، وتم فسخهم وحرقهم أحياء، واستخدام السلاح الكيميائي على جماعات سكانية عديدة، وكذلك جميع الأسلحة المحرمة التي تمتلكها دولة مثل إيران جميعا جربت على السنة في العراق، ولا زالت داعش لم تمارس ذلك، الواقع أن جميع ممارسات داعش هي صورة عن ممارسات الدولة الداعشية الأم إيران، والتي رأيناها في سوريا بوضوح في جميع المجازر التي ارتكبت من قوات نظام الأسد وشبيحته فهي صورة عما فعلته إيران في العراق.
أي دور لإيران؟ الدور الإيراني هو السبب الفعلي في الواقع لظهور تنظيمات متطرفة بقسوة داعش، وهو صعد الأزمة السنية إلى ذروة جديدة لم تبلغها من قبل، فإيران تمد نفوذها عبر الحروب الأهلية وعبر الصراع الطائفي، ومن غير الصحيح إطلاقاً أن التنظيمات السنية المتطرفة هي التي خلقت الصراع السني الشيعي، فالصحيح والأكيد أن إيران فعلت ذلك وهذه التنظيمات عرَّته وأظهرته للعالم.
مواجهة التطرف الديني تتطلب عملاً جدياً على تحقيق تطلعات الشعوب والمجتمعات السنية السياسية، وهو أمر مؤلف من شقين: الأول دعم ثورات الربيع العربي وتحقيق تغييرات جذرية عميقة في الأنظمة السياسية، والأمر الثاني وهو لازم عن الأول هو إخراج إيران كلياً واستئصال وجودها في المنطقة، ذلك أن إيران تقف وجه الثورات العربية السنية وتلعب دوراً رئيسياً في مواجهة إرادة شعوب المنطقة في التغيير، إحداث تغيير في النظام السياسي يعني كلا الأمرين معاً.
سيؤدي تحقيق تطلعات المجتمعات السنية بالضرورة إلى تغيير في رؤية العالم والتي هي الآن رؤية مشبعة بالمؤامرة ويسودها روح الضحية، ويساعد على التعاطي الإيجابي معه.
هل يعني أننا لا نحتاج الإصلاح الديني؟ لنقل أولاً أن مواجهة التطرف والعنف الديني يتطلب عملاً فقهياً لعلماء الشريعة، هذا أمر أكيد، لكنه لا يتطلب بالضرورة إصلاحاً دينياً على المدى القريب، ذلك أن تفكيك الترسانة الفقهية التي بنت عليها التنظيمات المتطرفة شرعية العنف هي ترسانة فقهية ذات طبيعة تقليدية وهي رخوة بالمعنى الفقهي أعني حججها الفقهية ليست بالصلابة التي تبدو عليها، والمطلوب عمل فقهي متين يفكك هذه الترسانة وهذا عمل يحتاج إلى تمكن في الأدوات الفقهية التقليدية أكثر من أي شيء آخر، ولا يتطلب إصلاحاً دينياً.
نعم نحن بحاجة لمشروع للإصلاح الديني لكن ليس لمواجهة هذا العنف المفزع الذي تقوم به تنظيمات جهادية، وإنما لإعادة تعريف دور الدين في الحياة العمومية، لإعادة تعريف علاقة الدين بالدولة، وعلاقة الدين بالمجتمع، ونحتاج تبعاً لذلك عدة معرفية جديدة وإدراك أكبر بالعالم، لا يقل عن معرفة علمية عميقة جدا وتخصصية في التراث، يقتضي ذلك بالضرورة تشجيع الاجتهاد وإطلاق دينامية جديدة في إطار الرؤية الجدية للعام خارج إطار المؤامرة الكونية، وهي لن تتكون إلا بحلول سياسية جذرية للعالم السني، فهذا هذا عمل كبير، ويحتاج لبضعة عقود وبيئة سياسية ملائمة.
بهذا المعنى من المبكر إطلاق حركة إصلاح ديني مع انعدام أفق الحلول السياسية، وفي وضع كهذا إذا ما تم إطلاق حركة إصلاح ديني فإن ذلك سيؤدي لا محالة إلى مزيد من العنف ويجعل الإصلاح الديني ذاته كم لو أنه اعتداء على الدين والهوية وعملاً سياسياً قمعياً وليس عملاً مساعداً، وطبيعي أن ذلك سيؤدي إلى مزيد من الانغلاق الهوية والانعزال عن العالم.
إذا هل نحن حقا بحاجة إلى إصلاح ديني لكبح العنف والتطرف؟ بالتأكيد نعم و لكنه الآن ليس أولوية، فنحن نحتاج لإصلاح سياسي جذري قبل أي حديث عن إصلاح ديني.
المصدر : القدس العربي