يعلن تطبيق اتفاق إيران مع الدول الكبرى مرحلة سياسية جديدة بين إيران والعالم عموماً، ينزاح فيها ثقل الملفّ النووي الذي كانت طهران تضغط به على المنظومة الدولية إلى حين (10 سنوات)، مما يمهّد الطريق إلى تطبيع علاقات «الجمهورية الإسلامية» مع الغرب بعد توتّر دام خمسة وثلاثين عاماً.
يراهن الغرب أيضاً على تعاون إيرانيّ يتجاوز الموضوع النووي ويتفاعل مع حوض الأزمات الإسلامي الكبير، من أفغانستان حتى سوريا، والذي تملك طهران نفوذاً واسعاً فيه.
وإضافة إلى التأثير السياسي النافذ لإيران ضمن منطقة متأججة بالأزمات، فهناك سوقها الاستثماريّ الكبير، ومخزونها النفطيّ، وهما عاملان شديدا الأهمّية، بالنسبة للشركات الغربية الكبرى، وبالنسبة لسوق الطاقة العالميّ الذي يتعرّض، بدوره، لضغوط هائلة، دفعت بأسعار النفط لهبوط تاريخي غير مسبوق.
الاتفاق، منظوراً إليه من عواصم العالم الكبرى التي أنجزته، هو أفضل ما يمكن الوصول إليه في اللحظة الحالية لإبطاء المشروع النووي الإيراني، وفتح اقتصاد «الجمهورية الإسلامية» للشركات والاستثمارات الغربية الطامحة للعمل في تحديث البنية التحتية وقطاعات الطاقة والمواصلات وغيرها، مع مراهنة غربية أن تؤتي هذه الأمور أكلها على مستوى السياسات الداخلية لإيران، بحيث تخرج هذه الأمّة العريقة من عباءة «ولاية الفقيه» الثورية إلى عباب السياسة والاقتصاد العالميين، فينعكس ذلك انفتاحاً سياسياً أكبر وانحساراً لخط تصدير الثورة الإسلامية وما أدّى إليه من تأجيج للأزمات في منطقة جغرافية واسعة، وما مثله من تحد للنظم والقوانين الأممية.
الرئيس الإيراني حسن روحاني، ركّز، لأسباب لا تخفى، على التداعيات الاقتصادية الممكنة للاتفاق، وأعلن عن حاجة بلاده لاستثمارات أجنبية بحدود 50 مليار دولار سنوياً لتحقيق نموّ جيد، فسعر النفط تدنى بنسبة 75٪ من سعره قبل عام، ولن تؤدي زيادة نصف مليون برميل المقررة إلى المطلوب منها مع استمرار التراجع في أسعار النفط، كما أن الأموال المحجوزة المفرج عنها من المتوقع أن تخصص لسد عجوزات متوقعة في الميزانية التي وضعت على أساس سعر 40 دولاراً للبرميل وفي حل استعصاءات اقتصادية كبيرة تم تأجيل حلّها لسنوات بسبب العقوبات الاقتصادية الدولية على إيران.
الاتفاق، منظوراً إليه من وجهة نظر العرب، يعني أن الدول الغربية الكبرى (إضافة إلى روسيا)، حلّت (إلى حين) إشكالية المشروع النووي الإيراني، وأخذت في تطبيع العلاقات مع طهران، على حساب إشكالية العرب الكبيرة مع «الجمهورية الإسلامية»، رغم مساهمة الغرب (باحتلاله أفغانستان والعراق) إلى حدّ كبير في تأسيس هذه الوضعية، المتمثلة حالياً بسيطرة طهران على دولة عربية كبرى (العراق)، وتدخلها العسكري المباشر في سوريا ولبنان واليمن، وتحريكها للأقليات الشيعية في البحرين والسعودية والكويت وغيرها، وهو ما جعل المنطقة العربية بأكملها منخرطة في صراع ذي طابع سنّي – ِشيعيّ، ساهم في دفع تيّارات التطرّف الديني لصعود لا مثيل له، عبر «الدولة الإسلامية» وشقيقاتها، ولعودة مظفّرة لجيوش الاحتلال الغربي، ولكنّ، هذه المرّة، رفقة الاحتلال الروسيّ لسوريا.
يبدو الوضع ببساطة حلفاً جديداً يتقاسم فيه الأعداء السابقون: الأمريكيون والروس والإيرانيون والإسرائيليون، المنطقة، ويتمّ التعامل مع العرب كفريسة للاقتسام موضوعة على طاولة، وتلوح فوق رؤوس كل من لا ينخرط في هذا الحلف الغريب التهمة التي لا تقبل الدحض: الإرهاب!
يتناظر هذا الحلف العجيب مع ضعف عربيّ واضح، فقد أدّى خوف آليات الاستبداد والطغيان في المنظومة العربية من التغيير إلى كبح الأسئلة التي فتحتها الثورات العربية، عبر تمويل الثورة المضادة في مصر وليبيا وتونس وغيرها، وكبح آفاق الثورتين السورية واليمنية، وبذلك فقدت هذه المنظومة المتآكلة القدرة على التعاطي الخلاق مع العالم الجديد الذي ينبثق.
مع ذلك، وبسبب طبيعة «الحلف» المعقدة وصعوبة الجمع بين أطرافه، والحركيّة الجديدة التي خلقها التدخل العربيّ في اليمن، وردود الفعل غير المتوقعة في واقع عربيّ شديد التغيّر يومياً، لا يمكننا التسليم بأن ما حصل انتصار لإيران وهزيمة للعرب.
المصدر : القدس العربي