خاطب مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، السوريين، عشية انعقاد جنيف 3، قائلاً: “نعوّل عليكم لرفع صوتكم، لتقولوا لجميع من يحضر المؤتمر إن هناك توقعات منهم”. وكان ينقص دي ميستورا القول: إرفعوا أصواتكم من تحت الأنقاض، أو من تحت أمواج البحر الهادرة.
فحسب السيد المبعوث، فإن السوريين الضحايا مدعوون للإسهام في إنجاح المؤتمر، بدل أن يكون المؤتمر مدعواً لأن ينجح في وقف الفظاعات ضد ملايين السوريين داخل وطنهم وخارجه. مع ذلك، حسناً أن الرجل تذكرّ السوريين، وخاطبهم بنبرةٍ تشي بالاحترام والتعاطف معهم، بعد أن كاد العالم ينسى الضحايا المدنيين، فيقترن الحديث عن السوريين فقط بالأعباء والمتاعب التي يتسببون بها لدول العالم.
وأكثر من ذلك، فإن دي ميستورا أثنى على مطالب الهيئة العامة للمعارضة بوضع المطالب المتعلقة بالجانب الإنساني خارج التفاوض، باعتبارها من ديباجة قرار مجلس الأمن 2254 الذي يشكل، إلى جانب جنيف 1 يونيو/حزيران 2012، مرجعاً للمفاوضات. أما الخارجية الأميركية فيروق لها الوقوع في التناقضات، هذه الأيام، بخصوص الملف السوري، فهي تعتبر مطالب المعارضة مشروعة، وتدعو، في الوقت نفسه، هذه المعارضة للحضور من أجل التفاوض، و”بدون شروط مسبقة” حول إجراءات بناء الثقة، ومنها رفع الحصارات.
أعاد التركيز قبل المفاوضات، وفي مستهلها، على الوضع الإنساني، وتظهير الجانب الأشد شذوذاً في الصراع الدموي القائم، وهو استسهال استهداف المدنيين، وعدم التورّع عن ارتكاب الفظائع ضدهم، وإحكام الحصار وفرض التجويع حتى الموت على آلاف المدنيين المحاصرين، وهو نموذج لهذا الاستهداف المنهجي، الذي بدأ مع الأيام الأولى لموجة الاحتجاجات في مارس/آذار 2011، ولم يتوقف حتى تاريخه.
انتهاء المحنة السورية منوط بوقف استهداف المدنيين وتجريمه وعودة المشرّدين داخل الوطن إلى بلداتهم وبيوتهم، ورجوع اللاجئين من المنفى الإجباري. الإرهاب في أبشع صوره وتمظهراته هو الذي تعرّض له المدنيون السوريون طوال السنوات التي تقترب من الخمس. وأية مكافحة للإرهاب تقتضي حكماً ووجوباً حماية المدنيين من الوحوش الذين يستهدفونهم.
نجحت المعارضة في إثارة هذه المسألة الجوهرية قبل أن تبدأ المفاوضات. وفي القناعة أن الهيئة العليا المعارضة سوف تنضم إلى المفاوضات المفتوحة، وغير المباشرة في مرحلتها الأولى، والتي يتم في أثنائها مخاطبة الوسيط الأممي. وتمنح مواصلة التركيز على هذه المسألة للتفاوض معناه، باعتباره وسيلةً للرفع من قيمة الحق في الحياة والكرامة لملايين المدنيين السوريين. تجاهل هذا الواقع أو القفز عنه أو الالتفاف عليه، ومواصلة استهداف المدنيين والمرافق المدنية هو الإرهاب عينه.
والقصد هو إحياء الاهتمام بالوضع الإنساني، وممارسة ضغوط من خارج دائرة التفاوض على الطرف، الذي يستسخف أبسط حقوق البشر في الطعام والماء والدواء والكهرباء. تشكو الأمم المتحدة بأن 90% من طلباتها لتقديم مساعدات إنسانية قوبلت بالرفض من الحكومة السورية. هل سيحتاج هذا الأمر إلى جهود أميركية وروسية من أجل إجراء مفاوضات بين الأمم المتحدة والحكومة السورية، تبحث سبل تقديم مساعدات إنسانية للسوريين المنكوبين؟!. علاوة على المنظمة الدولية، فإن عشرات من هيئات الإغاثة حيل بينها على مدى السنوات الماضية وواجب مد يد العون للمدنيين، الذين تُركوا يواجهون مصيرهم على أيدي قوى غاشمة مسعورة، تعتبر هؤلاء أهدافاً سهلة تحقق عوائد سياسية كبيرة.
للجانب الانساني حصة كبيرة في اهتمامات الأمم المتحدة، التي ترعى مفاوضات جنيف السورية الحالية. من واجب هؤلاء الرعاة انتزاع التزاماتٍ من المتفاوضين بعدم استهداف المدنيين، أو حصارهم أو منع الأغذية والأدوية عنهم. وتجريم ذلك، ورفض مقايضة ما هو إنساني بما هو سياسي.. هذا من أجل الانتقال إلى التفاوض حول الوضع السياسي في ظروفٍ ملائمة، وبآمال واقعية.
وللأمم المتحدة سجل غني من الخبرات المتراكمة في التعامل مع الجانب الإنساني للنزاعات، والمفاوضات الحالية فرصة للأمم المتحدة كي تُشهد العالم على من يسهل ومن يعيق إنقاذ حياة المدنيين السوريين، ومن يضمن سلامتهم ومن يهددها. روسيا وأميركا الراعيتان السياسيتان لجنيف 3 ملزمتان باحترام القانون الدولي الإنساني في سورية، والكف عن الاستهزاء الفعلي بحقوق الإنسان في هذا البلد، ويتعلق الأمر على الخصوص بتجاوزاتٍ روسيةٍ متكررةٍ وجسيمةٍ، أودت بحياة مئات المدنيين، مما فاقم المحنة السورية.
الآن، إذا أريد لهذه المحنة أن توضع على طريق النهاية، فلتتوقف كل أشكال التجاوزات المشينة ضد المدنيين، وليتحمل الجميع مسؤولياتهم الأخلاقية والقانونية إزاء شعبٍ شهد من المرارات والويلات فوق ما هو متصور، وبما يجعل الإمعان في تجاهل محنة المدنيين من ضروب العنصرية، علماً بأنه يستحيل الفصل بين استهداف المدنيين والإرهاب، وبين مكافحة الإرهاب وحماية المدنيين.
فالأمران متلازمان ومتكاملان، أو هما وجهان لعملة واحدة. وفقاً للتعريف البسيط والجوهري للإرهاب بأنه استهداف بالسلاح لمدنيين من أجل تحقيق أغراض سياسية، وفي الحالة السورية، شاع إغراق المدنيين بالدم، من أجل إضفاء طابع نزاع أهلي على صراعٍ، هو في الأصل سياسي، ويرمي إلى تحقيق إصلاحات شاملة. وقد ساهم الشحن الطائفي والتنافس العلني على رفع راياتٍ طائفيةٍ بين أصوليين سنة وشيعة، في جعل المدنيين وقوداً لهذا الصراع، علماً بأن الغالبية العظمى من المليشيات الطائفية وفدت من خارج الحدود.
وقلة قليلة منها خرجت من صفوف المجتمع السوري. وفي المحصلة، فإن أبناء الطوائف جميعاً دفعوا أثماناً باهظةً لهذه الحرب، وهؤلاء، بمن فيهم اللاجئون، يستحقون الإنقاذ ونزع عوامل الخطر والتوتير والتفجير التي يتعرّضون لها. وبدون منح هذا الأمل من بداية المفاوضات، فإنه يصعب أن يحقق التفاوض مبتغاه، أو أن تثمر الرعاية الأميركية والروسية ورعاية الأمم المتحدة عن شيء ملموس، ينعكس على حياة السوريين.
مع التذكير بأن تسويةً جديةً تستند للمرجعية الدولية، سوف تفتح باباً واسعاً لإنهاء مشكلة ملايين اللاجئين السوريين، في دول العالم، والمهم أن لا يسمح العالم باستمرار الاستعراض الأعمى والمقيت للقوة في سورية من مختلف الأطراف، بما يفتح الباب لهجرات السوريين، ولما لا يحصى من صنوف المآسي.
المصدر : العربي الجديد