لن يتّضح مسار «جنيف 3» قبل أسابيع وربما شهور. هناك مَن يتوقعون استمرار التجاذب إلى نهاية آذار (مارس) المقبل، ليبدأ التفاوض الفعلي على «العملية السياسية». لكن، قبل ذلك، لا بدّ من إنجاز ملموس في المقدمات الضرورية التي طلبتها المعارضة، أكانت «إجراءات بناء ثقة» كما تسمّى، أو تنفيذاً للمادتين 12 و13 من القرار الدولي 2254 في شأن الأوضاع الإنسانية.
لعل في الحديث عن فشل مؤكّد لهذه الجولة تسرّعاً، وليس صحيحاً أن النجاح رهن أداء المعارضة والنظام واستعداداتهما، بل إنه يتوقف على إخضاع تفاهمات أميركا وروسيا لشيء من «الواقعية» كي تتبنّى حلّاً منصفاً ومتوازناً للشعب السوري ومكوّناته بدل «مشروع حل» مستحيل يبقي النظام برأسه وإجرامه وإرهابه ويحمل بذور فشله في ذاته.
في سورية أو في سواها، والعراق شاهد، لا يستقيم حل سياسي إذا بني على موازين قوى عسكرية فحسب، وإذا كانت الدولة/ النظام طرفاً معتدياً على الشعب كطرف آخر، وبالأخص إذا أُريد إنقاذ هذا النظام واستبداده ووحشيته وبراميله بدعم من قوى خارجية. هذا «حلٌّ» لن يكون، ولا يمكن فرضه فرضاً على الشعب السوري، أياً تكن الضغوط، بل إن المبالغة في الضغط تنتج العكس تماماً، وتجربة افغانستان موجودة ومتفاعلة. فالحديث هنا عن بلد واحد وليس عن بلدين متحاربين بينهما حدود، وحتّى اختزال الصراع، على سطحيته، بوجود «معتدلين» و «متطرّفين/ إرهابيين»، لا يسوّغ حلّاً لمصلحة مصدر الإرهاب ومصنعه، إلا إذا نسي الأميركيون فجأة أن النظام لم يكن فقط ماكينة تعذيب وقمع بل لم يُعرف إلا بكونه «آلة قتل».
طالما أن الولايات المتحدة وروسيا تؤكدان تواطؤهما مع النظام وإيران ضد الشعب السوري، وطالما أن «أمم ستيفان دي ميستورا المتحدة» شريكة أصيلة في هذا التواطؤ، لا تمكن المراهنة على أي مفاوضات. لقد ذهبت هذه الأطراف بعيداً جداً في التحايل على حقائق الصراع. فواشنطن لم تتردد في القول أنها استوحت «النقاط الأربع» الإيرانية التي طُرحت في العام 2014 ثم «معدّلة» في 2015، وهي كانت لتكون مفيدة و «حسنة النيّة» لو عُرضت على النظام في 2011 عندما اعتبرت طهران أن الاحتجاجات الشعبية انما هي «مؤامرة» على «محور المقاومة والممانعة» ولا بدّ من مواجهتها بالحديد والنار وبقنّاصة «حزب الله» لاصطياد المتظاهرين السلميين. ولا تقترح هذه النقاط شيئاً آخر غير بقاء بشار الأسد ونظامه ومنظومة شبيحته وميليشيات حليفه الإيراني.
أما موسكو فكانت على تنسيق دائم مع طهران، وعلى «تفاهم» مستمر مع واشنطن، وعلى دعم متواصل للنظام تحول الآن إلى تدخل/ احتلال عسكري. لم تهتم بأي حوار مع المعارضة إلا لكي يُسمعها سيرغي لافروف مواقف وإملاءات من نمط ما سُمع أخيراً من جون كيري. لم تفطن الدولتان العظميان إلى أن حل المسألة السورية لا يكون بتسليم البلد إلى إيران على غرار ما حصل اعتباطاً للعراق، فهذه تدّعي «حقّاً» ليس لها في سورية ولا يمكن أن يكون، لا بسبب تركيبتها السكانية فحسب بل للاعتبارات الاقليمية والجيو – سياسية. وقد برهنت إيران بتدخلها في سورية ما سبق أن برهنته بهيمنتها العراق ومصادرة حكومته، وليس فيه ما يؤهلها لأن تكون عامل تطبيع سلمياً، أو طرفاً في محاربة إرهاب استدعته استدعاءً إلى سورية، أو شريكاً في حلول سياسية، طالما أن أجندتها التخريبية انكشفت إلى هذا الحد في خمسة بلدان عربية على الأقل.
لكن مَن قال أن الروس جاؤوا إلى سورية بقصد محاربة الإرهاب، أو لإحلال السلام والوئام. جاؤوا أولاً وأخيراً لتحصيل أوراق إضافية في مساوماتهم مع الأميركيين في شأن ملفات أخرى، وبما أن أميركا والدول الغربية لا تريد الرضوخ لمطالب روسيا وإرضاءها على حساب مصالحها في اوروبا، فإنها تفضّل تعويضها في سورية.
بعدما أحبط نظام الأسد «الحل السوري» ثم «الحل العربي» ثم مرحلتين من التدويل مع كوفي أنان والأخضر الابراهيمي، بقي له «الحل الروسي- الإيراني- الأميركي»، كما تبلور سرّاً في كواليس لقاءات فيينا (النووية ثم السورية) أو على هامشها.
ففي واجهة المشهد وخلفيته، كان واضحاً أن ورقة «داعش» التي زرعها النظام وحليفه الإيراني، مرفقة بموجات اللاجئين، ماضية في إثبات مفعولها الدولي، وأن ورقة «الإقليم الكردي» أفلحت في إرباك تركيا قبل أن يلجمها التصعيد الروسي. وقد يكون «الشريك الأميركي» أنجز دوره المرسوم عندما جهر بانقلابه على «بيان جنيف» فأحدث بلبلة لا هدف لها سوى إشغال المعارضة والدول الداعمة لها عما هو حاصل فعلاً على الأرض حيث تتداخل الأدوار في شمال سورية: مطار رميلان للأميركيين ومطار في القامشلي للروس، قوات كردية- عربية تقاتل «داعش» وتطهير عرقي كردي لبلدات وقرى عربية، بالإضافة إلى إشراف روسي- أسدي على تطهير عرقي للتركمان من مواطنهم التاريخية، تقدّم لقوات النظام في جبهة الجنوب بعد أمر أميركي بقطع الإمدادات العسكرية عن قوات المعارضة…
واقع الأمر أن الأطراف الأربعة (روسيا وأميركا وإيران والنظام) التقت أخيراً بفضل «داعش». وفي شهادات لقادة من فصائل المعارضة المقاتلة ما يؤكّد ذلك. فهذا أحدهم من «الفرقة 13» قال أنهم تلقوا عام 2014 أسلحة من الأميركيين مع شرطين: عدم محاربة «داعش»، وعدم محاربة قوات النظام إلا في المناطق التي تُحَدّد لهم. وهذا آخر سلفي تلقّى سلاحاً من الأميركيين مع اقتراب «داعش» من دير الزور واشتُرط عليه أيضاً عدم القتال ضد التنظيم.
وهذا ثالث من «الجيش الحر» كان شاهد عيان على قيام النظام بتسليم الرقة إلى «داعش»، وكان مشاركاً في خطط توحيد فصائل «الجيش الحر» إلى أن تيقن بأن الأميركيين اعتمدوا على أطراف أخرى لإحباط كل المساعي. وهذا رابع يروي أن عين العرب/ كوباني كانت ملاذاً للسوريين الهاربين من مناطق القتال، وكانت آمنة، لكنه وهو العسكري الخبير بالمنطقة لم يفهم لماذا هاجم «داعش» المدينة رغم الوضوح المسبق بأنه لن يتمكّن من ضمّها إلى سيطرته، لذا يرجّح أن يكون التنظيم استجاب تعليمات من جهات استخبارية يرتبط بها وقد أسفرت العملية عن إبراز دور «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي وزعيمه صالح مسلم الذي لم يقطع الصلة مع النظام وإيران.
وكما ساهم «داعش» في التواطؤ الرباعي، تحوّل دي ميستورا من مبعوث للأمم المتحدة إلى مروّج لسياسات تمييع قضية المعارضة وتلميع صورة النظام، إلى حدّ السماح لدمشق بتنقيح تقرير عن الوضع الإنساني وإلغاء أي إشارة فيه إلى الحصارات أو البراميل المتفجّرة، بل التغطية على بلوغ الخطر حدّ المجاعة قبل شهور في مضايا والمعضّمية وداريّا. وإذا كانت القاعدة أن يعمل أي مبعوث أممي في إطار توافق الدول الكبرى، فإن دي ميستورا تجاهل باكراً «بيان جنيف» الوارد في القرار 2118 وراح يعمل وفقاً لرغبات موسكو وواشنطن وطهران، لكن مسؤوليته وواجبه يلزمانه باحترام حد أدنى من مبادئ الأمم المتحدة، وبالحياد والنزاهة حيال الشعب وقضيته.
كان حريّاً به أن ينبّه العواصم التي توجّه مهمته إلى أن القرار 2254 ينص على إجراءات «فوق التفاوض» (وقف القصف ورفع الحصارات وإيصال المساعدات وإطلاق المعتقلين)، ولا بد من تلبيتها كي يمكن دخول العملية التفاوضية. لكنه لم يفعل، ويُتوقّع منه أن يكون بالغ السلبية تجاه المعارضة في سعيها إلى تحسين شروط التفاوض قبل الشروع به أو الانسحاب منه.
ذاك أن سلوك دي ميستورا، منذ تكليفه، كان متعايشاً دائماً مع جرائم النظام وابتزازاته، وبالتالي فإن استمراره على هذا النهج سيجعل منه مشكلة وليس عنصراً مسهّلاً. سبق لدي ميستورا أن لمس انعدام الثقة بينه وبين قيادة «الائتلاف» التي تمنّعت عن مقابلته، وها هي الهيئة العليا للمفاوضات أبلغته عدم رغبتها في الالتقاء باثنين من مساعديه. كان لافتاً أنه عندما قام بـ «زيارة مجاملة» لوفد المعارضة، بعد وصوله إلى جنيف لم يكن برفقة نائبه رمزي عزالدين رمزي الذي فضّل زيارة وفد النظام.
المصدر : الحياة