برزت في مرحلة التحضيرات لمؤتمر “جينيف 3” الخاص بالقضية السورية، إشكالية تتعلق بتعدّد المعارضات والخلاف على درجة تمثيلية كل منها، وتقرير أي منها يحق له المساهمة في صناعة مخرجات الحل المنتظر في جنيف، وقد استهلكت هذه الإشكالية جهدا كبيرا من مختلف الأطراف ذات العلاقة بالقضية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، لدرجة أنها تحوّلت الجوهر الأساسي للقضية، وفيما عداها لا يغدو سوى إشكاليات تفصيلية آنية!
لا شك أن هذا تحوّل خطير يجري على القضية السورية جرى العمل عليه بعناية ومنهجية دون أن يلتفت له الكثير، سواء من أهل الثورة أو من الداعمين لها، واعتبروا أن الخوض في تفاصيله نوعا من التحدي للطرف الآخر والانتصار عليه، فيما لم ينتبهوا أن مجرد قبول هذه المعادلة والإقرار بها في سياق معالجات القضية وفي نسق تعريفها أصلا، هو تحوّل خطير ستترتب عليه نتائج سياسية ومعنوية، حتى لو أن جهة ما استطاعت الحفاظ على حصة وازنة في الطرف المسمى معارضا.
القضية السورية أولا ليست قصية معارضة، ولا يجوز أن تنتهي هكذا بالتعريف، في سوريا ثورة شعبية ضد نظام حكم تحوّل إلى مليشيا، ثم في مرحلة لاحقة إلى وكيل لقوى خارجية، في حين أن الطرف المقابل هو ثورة شعبية انخرطت فيها غالبية الشعب السوري، وهي غالبية ليس من الصعب إحصاؤها طالما أنها تنطوي على نصف مليون قتيل، وأضعافهم من الجرحى، و مثلهم من المعتقلين، وأكثر من 12 مليون نازح ومهجر، ما يعني أننا إزاء نسبة تتجازوز ثلثي الشعب السوري، هم بيئة الثورة وفواعلها وروافعها، مع احتمالية وجود نسبة معتبرة من الثلث الآخر مع الثورة، وخاصة أولئك الذين يوضعون في الخانة الرمادية، والذين تمنعهم ظروفهم من الإعلان الصريح لتعاطفهم مع الثورة.
الإقرار بأن المقابل للأسد هم مجرد معارضة، هو إخلال خطير برواية الثورة وتجاوزها، ويترتب عليها جملة من الإجراءات التي ستنتهي بترتيبات موازية ليست في صالح السوريين:
أولا- اعتراف بشرعية نظام الأسد، بل واعتباره نظاما طبيعيا متساوقا مع القوانين والقيم السياسية العصرية، ذلك أن من سمات النظم السياسية العصرية وجود معارضة لها بتلوينات متعددة.
ثانيا- اعتبار الأمر كذلك اعتراف بأن أعمال ” الثورة” المعارضة قد انحرفت عن الفعل الطبيعي والتعبيرات المسموح بها للمعارضة؛” التظاهر- الاعتصام- الإضراب” إلى الأعمال العنيفة، المقاومة بالسلاح، وذلك يترتب عليه حكم إعفاء النظام من مسؤوليته في استخدام الأسلحة، ومسح الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين.
ثالثا- تؤدي شرعنة النظام إلى اعتبار تصرفاته على المستوى الخارجي في الفترة السابقة، وخاصة تحالفاته التي جلبت الأطراف الخارجية للمشاركة في قتل السوريين، تصرفات منطقية من نظام يمثل الدولة، ويعقد تحالفات أمنية وعسكرية مع أطراف خارجية، وهذه الوضعية تسمح له بتجريم كل من تعاطف مع الشعب السوري من الأطراف الدولية والإقليمية، حتى على مستوى تقديم المساعدات الإنسانية دون موافقة النظام.
رابعا: وهو الأهم، الإقرار بوجود نظام ومعارضة، يعني أن الأمر سيصار إلى معالجته وفق طريقة واحدة لا غير، وهي القبول بالإحتكام إلى قوانين النظام ولوائحه ودستوره في حل الإشكالية، والتوافق على آليات محدّدة للحل، تتمثل غالبا في انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، واعتبار الأزمة شكلا من أشكال الأزمات الدستورية، وفي حالة سوريا، وفي ظل سيطرة أجهزة الأمن على مفاصل الدولة بالكامل مع افتقاد للشفافية، فإن هذه الإجراءات لن تؤدي سوى إلى إعادة إنتاج النظام، ولكن بطريقة تجعله شرعيا بختم أممي!
من هنا لا بد من إعادة تعريف القضية السورية باعتبارها قضية ثورة شعب ضد نظام، سقطت شرعيته منذ اللحظة الأولى التي استخدم فيها أسلحة الشعب السوري في قتل أبنائه، وزاد عليها استدعاؤه للقوى الخارجية كي تعاونه في عملية القتل تلك، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أعطى صلاحية لتلك القوى بإجراء عمليات تغيير ديمغرافي وتهجير قسري لملايين السوريين، كما منحها الفرصة للعبث بجغرافية سوريا لصياغة مشاريعها الجيواستراتيجية على حساب وحدة سوريا أرضا وشعبا، وتحوّل مع الزمن إلى مجرّد دليل يرشد الطائرات الروسية على مكان وجود أفران الخبز ومدارس الأطفال، ومجرّد ملقّم لذخائر تلك الطائرات.
القضية السورية ليست قضية معارصة لديها إشكالية في الحصص الحكومية والحقائب الوزارية، تلك مسألة لم يحصل في التاريخ أن كان ثمنها نصف مليون شهيد ولا مليون ونصف معاق وجريح، تكفي مظاهرة سلمية واحدة لتحقيقها، على ذلك فإن تمثيل الثورة هو تكليف وليس وظيفة أو مهمة، والتفاوض يجب أن يكون على بند واحد وهو خروج النظام، أما المناورة الممكن حصولها من الطرف الآخر، فيجب أن تكون على كيفية خروج أركان النظام، وليس على الحصص والمكاسب للمعارضة.
المصدر : عربي 21