إن الصراع في سوريا، هو جزء من أزمة كبيرة ومعقدة، جمعت بين روسيا، ونظام الأسد، وإيران، والمعارضة السورية المسلحة، وألقت الضوء على محورين، تُرجما إلى صراعات عسكرية عميقة على أرض الواقع، أحدهما قضية تنظيم ي.ب.ك على مستوى ضيق، والآخر التدخل الروسي والإيراني، واستجابة الولايات المتحدة الأمريكية للأزمة السورية على مستوى واسع، الأمر الذي من شأنه أن ينذر بحدوث حرب إقليمية بعواقب إنسانية وخيمة.
وطرحت الأزمة عدة تساؤلات سياسية حول موقف إدارة أوباما بخصوص سوريا، والتطورات التي طرأت على تركيا منذ عام 2011، إضافةً إلى حقيقة تنظيم “ب ي د” وذراعه العسكري “ي ب ك”، وأخيرًا ما هي حقيقة استراتيجية إدارة أوباما الجيوسياسية لسوريا؟
يسود الاعتقاد في تركيا، وعدة دول عربية أخرى، بأن غموضًا شديدًا يشوب أهداف إدارة أوباما الإستراتيجية، وتحالفاتها، وخططها لحل هذا الصراع ، وذلك منذ بداية الصراع السوري.
موقف واشنطن من الوحدات الكردية السورية، هو أحد نقاط الخلاف القائمة بينها وبين أنقرة، إذ إن الأخيرة أدرجت تنظيم “ي ب ك” على لائحة الإرهاب، في حين تقدم أمريكا دعمها العسكري والسياسي المستمر له، وسط انتقادات واسعة من الجانب التركي، في ظل تصاعد الأعمال القتالية عبر الحدود السورية التركية.
عندما اندلعت الثورة السورية، في مارس/آذار 2011، ضد نظام الأسد، كان لدى الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، فرصة كبيرة، لدعم ثورة المجتمع المدني، المتمثلة بالمظاهرات السلمية في جميع أنحاء البلاد، من خلال مطالبته للرئيس السوري، بشار الأسد، التنحي عن السلطة.
وكان للموقف الأمريكي الأولي، تجاه الأزمة السورية، دعم جيوسياسي قوي، حيث تحدّ سوريا تركيا من الشمال، والأردن من الجنوب، وقوات التحالف الأمريكي، التي كانت مازالت متمركزة في العراق من الغرب، والأسطول السادس الأمريكي في منطقة البحر الأبيض المتوسط من الشرق، ما جعل من إبعاد الأسد عن السلطة، أمرًا قابلًا للتفاوض، كونه كان محاصرًا من الجهات الأربع.
وفي مطلع 2012، طرأت تغيرات جيوسياسية جديدة، من بينها انسحاب القوات الأمريكية من العراق، والدعم الإيراني للحكومة السورية، وعسكرة المعارضة، وتحول الثورة إلى حرب أهلية، ما حال دون إمكانية ممارسة ضغط سياسي على الأسد، وجعلت من العمل العسكري، خيارًا وحيدًا ممكنًا.
وقامت تركيا، التي استضافت عددًا كبيرًا من اللاجئين السوريين، بالتعاون مع بعض الدول العربية المعتدلة، بدعم المعارضة السورية، فيما دعمت إيران وحزب الله النظام السوري، ومن جانبها، واصلت إدارة أوباما مطالبتها رحيل الأسد، مقدمةً دعمًا محدودًا للمعارضة المسلحة، تاركةً الباب مفتوحًا لإجراء محادثات.
وفي صيف عام 2013، طرأ تحول كبير في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، وذلك عندما تعدى الرئيس أوباما جميع الخطوط الحمراء فيما يتعلق باستخدام النظام للأسلحة الكيميائية، وهدد باستخدام الحل العسكري.
وتوجهت واشنطن فيما بعد، لاتباع مسارجديد للضغط على الأسد، ما وصفه بعض حلفائها بـ”المتناقض”، يعتمد على المفاوضات، والقنوات الدبلوماسية في جنيف وفيينا من جهة، وتسليح المعارضة من جهة أخرى.
وحمل خريف 2013، تحولًا كبيرًا في سياسة واشنطن تجاه الأزمة السورية، وذلك على ضوء بداية المباحثات لإبرام صفقة نووية مع إيران، وتداعيات هذا الاتفاق، الذي تمخض عنه وقف المواجهة مع طهران، وبالتالي حليف إيران السوري، ما تسبب بمحدودية تسليح وتدريب المعارضة السورية، من قبل الجانب الأمريكي، تجنبًا من مواجهة إقليمية مع إيران، وحفاظًا على الصفقة المبرمة بينهما. فعلى سبيل المثال، دعمت واشنطن المساندة التركية للمعارضة السورية، فيما لم تشجع التدخل التركي العسكري في شمال سوريا، تجنبًا للغضب الإيراني.
وجاء ظهور تنظيم “داعش”، في يوليو/حزيران 2014، ليهز التوازن، ذوالحساسية العالية، بين المباحثات ودعم المعارضة، وسيطرته على أجزاء من العراق وسوريا. ما وضع إدارة أوباما تحت ضغط كبير من قبل الكونغرس الأمريكي، لاختيار أحد احتمالين، إما مباشرة العمل العسكري ضد “داعش”، الأمر الذي رفضه أوباما، أو مساندة الشركاء المحليين في كلا البلدين لمواجهته، إضافةً إلى تقديم الدعم الجوي.
وبالتالي أجرت واشنطن تعديلًا جديدًا على موقفها الجيوسياسي، من خلال إمداد القوات المسلحة العراقية في الوسط والجنوب، موازيةً النفوذ الإيراني في البلاد، إضافةً إلى دعمها لقوات البيشمركة في الشمال. فيما اقتصر التحرك الأمريكي في سوريا على الضربات الجوية، نظرًا لعدم إمكانية التعاون مع الأسد.
وجاء التدخل الروسي في سوريا، من خلال توجيه ضرباته العسكرية للمعارضة المعتدلة، بدلًا من “داعش”، مقدمةً بذلك دعمًا كاملا لقوات النظام السوري، ليُحدث تطورًا جديدًا على استراتيجية إدارة أوباما، وذلك من خلال وضعه تحت نوعين من الضغوط، الأول، أولوية عدم الإخلال بصفقة طهران، والثاني تجنب الإدارة، وحلفائها في المنطقة من الأتراك والعرب، الصدام مع القوات الروسية في سوريا.
وكان لهذه التحولات الجيوسياسية المتعددة، أثر كبير على تركيا، وعلاقاتها الأمريكية، كونهما البلدان العضوان في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، ما يلزم أمريكا بالدفاع عن الأراضي التركية، في حال تعرض سيادتها لأي خطر من الخارج، ما جعل إدارة أوباما “أكثر دقة، وحساسية” بما يخص العمليات التركية في سوريا، أو أي هجمات إرهابية محتملة ضدها، وهنا يكمن الجوهر.
أدرجت كل من أمريكا وتركيا تنظيم “بي كا كا” على قائمة الإرهاب، وبناءًا عليه تقبلت الأولى العمليات التركية ضده، بما في ذلك تلك التي تجري خارج الحدود التركية، فيما ترى أنقرة تنظيم “ي ب ك”، حليفًا وذراعًا لمنظمة بي كا كا في سوريا، وتتخذ إجراءات ضده، باعتباره جماعة إرهابية، تعتبر واشنطن الوحدات الكردية طرفًا موثوقًا به لمحاربة الإرهاب، ومكافحة تنظيم “داعش” النشط في منطقة الحسكة.
الأمر الذي أثار خلافات، وحالة جمود بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الأمريكي، حيث يحاول الجانبان تجنب تصعيد هذه المسألة، من خلال تفادي سيناريو دعم الجيش الأمريكي، مسلحي تنظيم”ي ب ك”، باعتبارهم “شركاء” في حربه ضد “داعش”، في اشتباكاتهم ضد تركيا، التي تعتبرهم “جهة معادية”.
إن الدعم الروسي للأسد، وإيران، وحزب الله في استهداف حلب، وصولًا إلى الحدود التركية، يزيد الأمر تعقيدًا بالنسبة لأنقرة، التي ترى في هذا التقدم، تهديدًا لأمنها القومي، الأمرالذي يطرح تصورًا مخيفًا، بوجود اتفاق سري بين أمريكا وروسيا، يقضي بتقسيم الحدود الجنوبية لتركيا بين الأسد وتنظيم”ي ب ك”، رغم نفي إدارة أوباما لهذا الفهم، بينما تطابق الحقائق على الأرض هذا التوقع.
ونظرًا للأزمة الدبلوماسية التي شهدتها العلاقات بين موسكو وأنقرة، في نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، على خلفية إسقاط الأخيرة مقاتلة روسية انتهكت الأجواء التركية، تعمل واشنطن، في الوقت الراهن، على تخفيف حدة التوتر، وإنهاء التصعيد بين الطرفين، داعمةً الضربات التركية، أرضية كانت أم جوية، على أصول تنظيم “بي كا كا” في سوريا، ومرحبةً بالغارات الجوية على “داعش”، فيما حذرت من أي ضربة جوية تركية لحماية المعارضة السورية.
ويرى محللون في واشنطن أن المواقف التركية والأمريكية تجاه تنظيم”ي ب ك” في سوريا، في هذه المرحلة، تدخل في بوتقة معادلة أكبر تشمل كل من روسيا وإيران.
وتصب مصلحة إيران المباشرة في نتاج الصراع السوري، حيث إنها ترمي لبناء جسر جيوسياسي من عاصمتها طهران إلى العاصمة اللبنانية بيروت، مرورًا بالعراق وسوريا التي تسيطر عليها قوات الأسد.
واستخدمت طهران أوراق مختلفة لتحقيق تطلعاتها المستقبلية بمنع تدخل السنة الأتراك أو العرب في سوريا، من بينها الضغط على أوباما من خلال صفقة إيران، والتحالف مع الروس، للحفاظ على تركيا بعيدة عن سوريا والعراق، وردع الخليج من تحقيق أي نجاحات في المنطقة، باختصار، لتجد تركيا نفسها على خلاف مع أمريكا بما يخص حمايتها لتنظيم”ي ب ك”، وذلك يعود لنجاح إيران في شراء نفوذها في سوريا والعراق، وذلك تحديدًا من قبل الإدارة الأميركية الحالية.
وطن اف ام