في الملحمة الغنائيّة الشعبيّة الكُرديّة الطويلة (تيلي/Têlî)، يروي «العاشق» لحبيبته كيف أقنع أخواته السبع الجميلات بالزواج من أخوتها «البشعين القُساة»، كي يتمكن مصادقتهم ووِصال حبيبته. وإذ يصف مرارة ما عاناه وهو يحاول إقناع أخواته الطيبات بما لم يكن مُقتنعاً به، تتحول تلك التراجيديا سياقاً موازياً ومُبايناً لسردية الحُب نفسها.
في المسألة السورية ما يطابق ذلك تماماً. فثمة كثيرون يسعون الى أن يقنعوا السوريين بأن «ثورتهم» إنما تُعاند «شكل العالم»، وأن هذه المنطقة بالغة الحساسية من العالم، وأن سورية تُشكل عقدة ومركزاً في هذه المنطقة، وأن لها خواصها وشروطها التي لا تتغير ببساطة، وعلى السوريين أن يقبلوا بهذه الفروض والوقائع، أياً كانت طبيعتها المباينة للخيارات القيميّة «العادلة» التي خرج السوريون لأجلها. أي أن يتركوا «أحلامهم» ومخيلتهم عن إسقاط نظام العائلة والطبقة الاستبدادية، وبناء دولة مدنية ديموقراطية، ويقبلوا فوق ذلك بفظاعة كُل ما جرى من جرائم، وكأنه شيء عادي وطبيعي وجزء من القُربان الذي عليهم بذله ليتوافقوا مع شكل العالم هذا.
ليس من خارج السياق أن هؤلاء أنفسهم لا يؤمنون بما يسعون الى أن يقنعوا السوريين به، إذ ينتمون إلى عوالم وطبقات تدعي الإيمان بحقوق الإنسان والإقرار بالدولة المدنيّة وشرط العلمنة، ويتحدرون من مؤسسات تدعي وثائقها التأسيسية أن تلك القيم هي الأُسس التي قامت عليه ولأجله.
أول هؤلاء، وأكثرهم فاعلية، الوسطاء الإقليميون والدوليون. فعلى رغم وضوح المسألة السورية وشرعية وعدالة وسلمية مطالب السوريين التي قابلها عنف النظام الأرعن، فهؤلاء «الوسطاء» سعوا دائماً الى إقناع السوريين عبر مؤسساتهم المعارضة بأن «الواقع هكذا»، والمعيار هو موازين القوى المحضة بين النظام الأمني العسكري ومجموع المُنتفضين العُزل.
لم يسع هؤلاء لمُمارسة دورهم المُفترض، بأن يقنعوا العالم بفداحة النظام وقسوته، والضغط الحقيقي عليه ليقبل بمطالب شعبه بوصفه الخيار الأقل كِلفة والأكثر عدالة وإنسانيّة. كانت تلك هوية الوسطاء جميعاً، من مندوبي جامعة الدولة العربية إلى المبعوثين الإقليميين والوسطاء الدوليين. وما كانت لُغتهم المُجردة وتفاعلهم السلبي سوى جزء من السلوكيات الفعلية للمُنظمات والمؤسسات التي انبثقت منها مهماتهم، جامعة الدول العربية والأمم المُتحدة، التي تسعى دائماً الى أن تتفهم المنطقة بمنطق أنظمة حُكمها، وأن تُشرعن توازنات القوى في العالم بدل التزام معايير أخلاقية والدفع بالتغيير إلى أمام.
ليس أقل منهم، كانت سياسات الدول «الكُبرى» وعلى رأسها الولايات المتحدة. فانسحاب إدارة أوباما من المنطقة عسكرياً وسياسياً إنما عنى أن يُترك ضُعفاء المنطقة لمنطق الأقوياء، ويكون الدور الأميركي محصوراً بمنع «الأسوأ» الذي قد يمس المصالح والحساسيات الأميركية، التي تقلصت إلى «أمن إسرائيل» ومنع انتشار تنظيمات جهادية كداعش.
لم يدفع السوريون ثمناً باهظاً جراء تلك «البراغماتية» فحسب، بل كانوا دوماً ضحايا المسعى الأميركي لدفعهم إلى التطابق مع رؤية واشنطن، إيماناً بعدم القُدرة على اسقاط النظام، وتأجيلاً للأمور حتى إتمام الصفقة النووية مع إيران، وقبولاً بـ «حل وسط» وبتسليم الملف لروسيا، وليس انتهاء بدفعهم نحو «سكّ استسلام مُذل». فبالنسبة للولايات المُتحدة لا يُمكن الحديث عما «يجب أن تفعله» القوى العُظمى، بل على السوريين أن يتفهموا فروض السياسة والخيارات الأميركية الجديدة في المنطقة.
على أن أكثر المُثيرين في هذا السياق طبقة من المُثقفين والمعرفيين والسياسيين السوريين والعرب، الذين يتحدرون من أرومات طائفية وولاءات إيديولوجية وموقع وظيفية لا تتوافق مع ما كان السوريون يسعون إليه. ولإخفاء تناقضهم الجوهري مع مطالب السوريين، ولخجل الكثيرين منهم من إظهار ذلك، كانوا يصرحون بـ «عدالة» ما يُطالب به السوريون، لكنهم على الدوام يسعون الى إثبات استحالة تحققه، ويستخدمون كُل قدراتهم للتشكيك بجدارة السوريين وتضخيم قُدرات النظام والإيحاء بصلابة مواقف داعميه مُقابل تذبذب مواقف المُساندين للشعب السوري، فكأنهم يقولون للسوريين «اتركوا هذا الأمر».
المصدر : الحياة