وصلت الأزمة في سوريا إلى مرحلة مفصلية في الصراع الإقليمي والدولي وهي مرحلة المراجعة والفرز والتصنيف لأسباب ومكونات الأزمة التي بدأت قبل العام 2011، بين اللاعبين الرئيسيين روسيا والولايات المتحدة؛ والحلفاء الإقليميين؛ والمعارضة السورية؛ والحكومة السورية.
كل طرف من الأطراف الأربعة يخضع لعملية مراجعة وفرز وتصنيف حاسمة تؤسس للمستقبل بعد خمس سنوات من النجاح والفشل في الصراع السياسي والعسكري، وقد شهدنا بعضا من نتائج المراجعة خلال العام الماضي وستستمر، كما ستشهد الأيام القادمة التي تلي جنيف 4 مزيدا من المراجعة لنتائجها إضافة إلى الفرز والتصنيف، خصوصا بعد الهدوء النسبي للقتال، وتوقيع قرابة 100 فصيل على الهدنة.
صدور القرار الأممي 2268 بتعديل طفيف يرضي غرور بعض الأطراف وإدراج وثيقة جنيف 1 التي تتعلق ببعض نصوصها أطراف المعارضة لوجود بند خاص “بهيئة الحكم الانتقالي”، هما ما جعلا الهيئة العليا للمفاوضات في قائمة الرياض تتصور نفسها هيئة الحكم المذكورة في وثيقة جنيف 1. لكن المفاجئ أن شطب اسم “قائمة الرياض” كهيئة عليا للتفاوض من بندين في النسخة النهائية للقرار الأممي، وعدم ذكرها كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري أصابا “قائمة الرياض” بالإحباط. كما أن أفرادا من قوائم موسكو والقاهرة والأكراد ومعارضة الداخل سيشاركون كأطراف فاعلة في المفاوضات القادمة بشكل مباشر أو غير مباشر، عاجلا أو آجلا. الأهم من ذلك، أنه لم يعد رحيل بشار الأسد مطروحا بشكل قانوني وأممي، ولم تعد القوى العظمى تعتبر ذلك شرطا، بل تعتبر الرئيس والنظام القائم جزءا أساسيا من الحل.
تغيّر اللهجة الإعلامية والنبرة الخاصة بالتدخل البري، والتلويح بالخطة (ب) في بعض تصريحات وزير الخارجية الأميركي التي يسوّقها إرضاء لبعض الحلفاء الإقليميين وحفظ لماء الوجه، وما عدا ذلك فهي لا تستند على واقع سياسي أو عسكري أو قانوني. تشتمل الخطة المزعومة، التي تم تسريبها لوسائل الإعلام الأميركية، على سيناريو أشبه بأفلام الواقع الافتراضي، وهو دخول قوات خاصة برية مزودة بحماية ذاتية من صواريخ أرض – جو والتعاون مع بعض الفصائل المسلحة السورية، لتحقيق أربعة أهداف: 1 – اصطياد الرئيس السوري على غرار ما تم مع الرئيس العراقي صدام حسين. 2 – تأمين المناطق المحررة من المجموعات الإرهابية. 3 – خلق مناطق عازلة في الشمال السوري على الحدود مع تركيا. 4 – تنفيذ مناطق حظر طيران يشمل مناطق معينة ذات لون خاص.
في الوقت ذاته، نسي وزير الخارجية الأميركي: أن هذه الخطة تتطلب قرارا أمميا يتضمن البند السابع، وما عداه فهو خرق للقانون الدولي؛ ونسي ثانيا، أن بلاده أشبه ما تكون بـ”البطة الرابضة” لمدة عامين قادمين على الأقل لثلاثة أسباب: 1 – استراتيجية الرئيس باراك أوباما التي تتناقض مع أي رأي لتدخل عسكري حتى لو كان خاطفا أو مضمون النتائج؛ 2 – أن عام 2016 هو العام الأخير للإدارة الأميركية الحالية، وقد تكون الأخيرة للحزب الديمقراطي، مما يتطلب وقتا ليس بالقصير للإدارة القادمة سواء من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري. 3 – الأقليات الكردية في سوريا التي تدعمها الولايات المتحدة بشكل علني ومباشر ساهمت بشكل فعّال في محاربة داعش. كما نسي وزير الخارجية الأميركي، ثالثا، أن روسيا جاءت إلى سوريا لحماية الدولة والشعب والنظام والرئيس حتى لو لم تصرح بذلك ولن تسمح بأي خطط أميركية. ولذا فإن محاولات وزير الخارجية الأميركية لم تُجد نفعا في تخفيف حنق الحلفاء الإقليميين، كما لم توقع الهلع لدى الرئيس السوري والحكومة والجيش السوري.
يبدو من اجتماع روسيا وأميركا الذي أفرز القرار الأممي 2268 أن هناك تصورا شاملا للمنطقة يعنى بأكثر من الملف السوري الذي يتوقع له أن يدخل شيئا فشيئا إلى العادية والإجرائية والسكون، وسينشط العمل على ملفات اليمن والعراق والعلاقات السعودية الإيرانية ولبنان وليبيا، وبأهمية خاصة، الصراع العربي الإسرائيلي الذي يشكل الهدف غير المرئي وغير المعلن خلف كل هذا التوتر في المنطقة. فمع نجاح وقف العمليات العدائية (وقف إطلاق النار) لأول مرة منذ خمس سنوات، ستنتقل الأزمة السورية إلى المحلية ضمن ضوابط ومعايير معينة. وستنشغل تركيا بموضوع الأكراد مع لجم لحكومة رجب طيب أردوغان حول الحدود التركية السورية؛ كما ستقوم روسيا وأميركا بالمساعدة في إنهاء الاحتراب في اليمن.
نجاح الانتخابات في إيران وتفوق الإصلاحيين والمعتدلين سيمهدان لتغيير في المنطقة وسيمنحان حكومة حسن روحاني شيئا من القوة والمرونة في بعض من اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية، بالرغم من سلطة المرشد الإيراني شبه المطلقة، وسيتم التركيز على الجانب الاقتصادي الذي يشكل الأولوية القصوى للشعب الإيراني. هنا تسنح الفرصة لعلاقات أفضل بين السعودية وإيران لتقديم التنازلات وإجراء المقايضات في قضايا تراها الدولتين حساسة مثل اليمن وسوريا ولبنان، ونظن أن إيران ستتمكن من تقديم مرونة في هذا الصدد، مقابل مرونة من السعودية في قضايا حيوية مثل النفط والغاز والتجارة. كما سنشهد تحولا ولو طفيفا في اللهجة الدبلوماسية والتراشق الإعلامي، والعمل على تخفيف حدة الصراع بين السعودية وإيران.
من جانب آخر، تشكل الصين الهدف الرئيس في استراتيجية الولايات المتحدة، ومن هذا المنطلق تتجه الولايات المتحدة نحو تعيين وكيل معتمد لديها في الشرق الأوسط قادر على مسك زمام الأمور وإعادة النظام لهذه المنطقة المضطربة. ولذا تجد الولايات المتحدة في إيران ذلك الوكيل المعتمد وتحاول أميركا تهيئة إيران في جانب، وحلفائها الإقليميين في جانب آخر، لتقبل هذا الوضع الجديد. الولايات المتحدة لا تثق بأي من حلفائها في الشرق الأوسط: السعودية وأيديولوجيتها السنية، أو تركيا ونظرتها الإمبراطورية، أو إسرائيل وأطماعها التوسعية، للاضطلاع بهذه المهمة. وبالرغم من الأيديولوجية العقدية للساسة في إيران، إلا أن الولايات المتحدة كدولة مصالح قادرة على التعامل مع ملالي إيران ونزقهم أحيانا، أفضل من العرب أو الأتراك أو اليهود.
أخيرا، تراجع أهمية الملف السوري لا يعني عودة السلام إلى سوريا، لكنه يعني نقل الأزمة في سوريا إلى موضعها الطبيعي وإلى المحلية والتعامل معها على أنها شأن سوري – سوري، والالتفات لحل القضايا الجانبية التي كانت سببا في الأزمة وليس نتيجة لها، وأثرت وتؤثر على المواقف بين طرفي النزاع، والخشية من أن تتطور وتخرج عن السيطرة ثم تكون أكبر حجما من الأزمة في سوريا.
تقليم أظافر أطراف النزاع للأزمة في سوريا، وتحييد أو استبعاد الدول الإقليمية، وفرض الحل في سوريا، هي المحصلة لاتفاق القوى العظمى، فاتفاقية “دايتون” التي فرضت في أوروبا لازالت تعلق بالذاكرة السياسية.
المصدر : العرب