عدة جمل معبرة أفلتت، طوعاً، من أحد المسؤولين الروس الذين علقوا على قرار الرئيس فلاديمير بوتين سحب الجزء الأكبر من القوات الروسية من سورية. فقد قال الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، في حديث مع صحيفة واشنطن بوست، عشية القرار إنه “بات بفضل التدخل الروسي من الصعب إطاحة الرئيس السوري بالقوة”، ووضع قرار الانسحاب في سياق الضغط على الأسد بقوله “إن الانسحاب من سورية يمكن اعتباره بمثابة رسالة من موسكو، بأن الدعم الروسي للأسد لم يعد بلا حدود”.
لن يصدر عن موسكو، في الفترة المقبلة، موقف أوضح من هذا، ولا سيما أن دبلوماسيين أجانب أكّدوا أن تصريحات بيسكوف لم تكن زلة لسان، وهناك من يجزم بأنه ما كان للناطق الرسمي أن يفسّر القرار على هذا النحو، لو لم يتم الطلب منه أن يتكلم عن الانسحاب بهذه الصراحة، فهو، في نهاية المطاف، يتحدّث باسم القصر الرئاسي الذي يشغله ضابط الكي جي بي السابق الذي يزن كل كلمةٍ من كلماته، ومن المعروف أن وظيفة الناطق الرسمي هي، أولاً وأخيراً، نقل رسائل أو “شيفرة”، والتعبير بدقة عن رأي الجهة التي يتكلم باسمها.
صحيح أن بيسكوف لم يدل بهذا الحديث، في بيان رسمي باسم الكرملين، لكنه كان يتحدّث، من دون حرج، إلى صحيفةٍ معروفةٍ، وهو يعلم أنها ستنقل عنه هذا الرأي الذي كان سيفصح عنه لها، أو لغيرها، كونه ينطوي على رسائل سياسية، تريد موسكو الإعلان عنها.
من دون شك، أبلغت موسكو الرسائل، في صورة رسمية، للمعني بها مباشرة، أي الرئيس السوري بشار الأسد. وبالتالي، فإن لتسريبها للإعلام مغزى آخر. والهدف الأول من ذلك القول إنها التزمت بقرار مجلس الأمن 2254 القاضي بوقف إطلاق النار في سورية، وأن الهدنة التي أعلن عنها المبعوث الدولي، في السادس من شهر مارس/آذار الحالي ولمدة أسبوعين، صارت دائمة، وتحولت إلى وقف إطلاق نار دائم.
والهدف الثاني أن موسكو لم تتدخل في سورية، من أجل تثبيت بشار الأسد في الحكم، وإنما لتغيير موازين القوى، وهذا ما يفسر القول إن موسكو حالت دون سقوط الأسد عسكرياً، وهذا يعني أنها لا تمانع في رحيله سياسياً، ويتقاطع هذا مع تحليلاتٍ كثيرة اعتبرت أن اتخاذ قرار الانسحاب، عشية بدء اجتماعات جنيف، هو رد على التصريحات التي أدلى بها وزير خارجية النظام، وليد المعلم، قبل يومين من بدء الاجتماعات، وأطلق خلالها لاءاتٍ عدة، تصب في اتجاه نسف مضمون جنيف، وخصوصا رفض التفاوض حول مصير الأسد الذي يشكل عقدة العقد، فيما يتعلق بهيئة الحكم الانتقالية التي تم النص عليها في بيان جنيف 1.
لم يكن الجانب الروسي صريحاً كما هو عليه هذه المرة، فهم قالوا لرأس النظام إنهم لم يعودوا مسؤولين عن سلوكه، من الآن فصاعدا، وهذا أمر عكسه تصرف النظام، سواء بيان القصر الجمهوري السوري، أو تصريحات رئيس وفد النظام إلى جنيف، بشار الجعفري، فبيان القصر أراد نفي الخلاف مع موسكو، لكنه لكثرة ما بالغ في النفي أوحى بوجود خلاف فعلي. أما الجعفري الذي كان يتغنى بالموقف الروسي في السابق فقد صار يكتفي بتقطيبة حاجبٍ، ويمر سريعا على المسألة.
هناك شبه إجماع في الصحافة الغربية على أمرين: الأول، أن الانسحاب ترجمة لخلاف بين الحليفين، والثاني أن كلام المعلم هو القشة التي قصمت ظهر البعير. وقد لمس الروس خلال خمسة أشهر من انخراطهم المباشر إلى جانب الأسد أنه ليس هناك وسيلة ضغط على رئيس النظام السوري أكثر جدوى من تركه وحيداً، لأنه من دون ذلك سوف يظل يشبّح ويكابر، ويطلق عنترياتٍ لا رصيد لها في الميدان.
المصدر : العربي الجديد