تستحق مقالة الصحافي الأميركي، جيفري غولدبيرغ، المطولة عن عقيدة الرئيس الأميركي باراك أوباما، ونشرتها مجلة الأتلانتيك أخيراً، وتتضمن مقابلات مع أوباما، اهتماماً بحثياً وإعلامياً وسياسياً عربياً كبيراً، لأنّها تضعنا أمام قراءةٍ معمّقة عن قربٍ شديدٍ للمواقف الحقيقية، غير المدبلجة أو المتلبسة بغطاء دبلوماسي خادع، لمواقف الإدارة الأميركية، ومعها المناظرات الداخلية في مراكز التفكير الأميركي عن المنطقة العربية، وأوضاعها الراهنة ومصائرها المتوقعة في ضوء المتغيرات الحالية.
ثمّة نقاط مهمة، من الضروري وضعها في سياق الحديث عن هذه المقاربة، ثم نطرح السؤال الأكثر أهمية، فيما إذا كانت هذه عقيدة أوباما وحده، شخصياً، الذي سيغادر بعد تسعة شهور البيت الأبيض، أو حتى على مستوى عام الحزب الديمقراطي، أم أنّها تتجاوز هذا الإطار إلى الأوساط السياسية الأوسع، الجمهورية والديمقراطية؟.
بدا الشرق الأوسط، في مقالة غولدبيرغ، منطقةً “قيد التفكك”، ولا يمكن إصلاحها، ولم تعدّ أولوية في استراتيجية الرئيس أوباما، إذ الأهمية الأولى اليوم لآسيا والتنافس مع القوى الصاعدة هناك، في الصين والهند. أما منطقتنا، فبدلاً من تعريفها بأنّها المصدر الرئيس للطاقة التي تزوّد أميركا، وبعد اكتشافات النفط، وتزايد التفكير في الطاقة المتجدّدة والمصادر الأخرى للطاقة، أصبح يُنظر إليها مصدراً لشيء آخر للغرب، هو “القاعدة” و”داعش”!
وقد مثلت “داعش” لأوباما دليلاً ملموساً على أنّ الشرق الأوسط غير قابل للإصلاح المطلوب، وبالتالي، هو مستنقع لمن أراد أن يغرق فيه. لذلك، قرّر أوباما مخالفة آراء مستشاريه، ومسح الخطّ الأحمر الذي قرّره هو نفسه، عندما كان قد حذّر الرئيس السوري، بشار الأسد، من استخدام الأسلحة الكيماوية، فوافق على الوساطة الروسية، وانتهى الأمر إلى تفكيك السلاح الكيماوي، ما يخدم إسرائيل، ويحقّق نتيجة مهمة لأوباما، من دون أن يسأل كثيراً عن “هيبة الولايات المتحدة الأميركية” وسمعتها المتعلّقة بخطوط حمراء جرفها النظام السوري، عندما استخدم السلاح الكيماوي في الغوطة.
علّق مارتن أنديك، أحد أبرز الاستراتيجيين الأميركيين وصاحب نظرية “الاحتواء المزدوج” (ضد إيران وعراق صدام حسين في التسعينيات) في مقاله “نهاية نظام الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط” في مجلة الأتلانتيك نفسها بأنّ 30 أغسطس/ آب (اليوم الذي بلع فيه أوباما خطوطه الحمراء) بمثابة اليوم الذي خرجت فيه منطقة الشرق الأوسط من تحت الهيمنة الأميركية، بوصفها القوة الكبرى في المنطقة خمسة عقود.
لم يقتصر منظور أوباما إلى الشرق الأوسط بوصفه منطقةً قيد التفكك، لم تعدّ تشكل أولوية للاستراتيجية الأميركية، ولا مركز المصالح الحيوية لها في العالم، بل أيضاً تغيّرت تحالفات أميركا في المنطقة العربية، فأصبحت الإدارة تنظر إلى الحلفاء السنة العرب، بوصفهم مصدر المشكلات والأزمات في المنطقة، بل والمسؤول المباشر، بسبب سياساتهم عن صعود المنظمات الراديكالية الجهادية، وإلى إيران بوصفها القوى الإقليمية الصاعدة التي يمكن التحالف معها أو التفاهم (بالحدّ الأدنى) لمواجهة المشكلات والأزمات المختلفة.
ضمن هذا الإطار، صدمت الفجاجة في رؤية أوباما للسعودية مراقبين كثيرين، استغربوا هذا الموقف الحادّ إلى درجة يصف فيها رئيس الولايات المتحدة العلاقة مع السعودية بأنّها “التي تسمّى حليفاً لنا”، فالمسكوت عنه في هذا النص، ويكاد يكون مفضوحاً، أنّ الإدارة الأميركية لم تعدّ تعتبر السعودية حليفاً، إلاّ لأسباب براغماتية آنية، لكن على المدى البعيد، فإنّ النظرة إلى السعودية تتمثل في أنّها مصدر للسلفية والوهابية للعالم، وشكا أوباما نفسه لغولدبيرغ من أنّها المسؤولة عن “التديّن الوهّابي” الذي اجتاح أندونسيا في العقود الأخيرة.
يرفض أوباما رؤية السعودية والدول العربية تحميل إيران أو إسرائيل مسؤولية المشكلات البنيوية في المنطقة العربية. ويرى، على النقيض من ذلك، أنّ الأزمات الداخلية وسوء إدارة الحكم في هذه الدول العربية السنية هو السبب الرئيس المسؤول عن مشكلاتها وأزمات المنطقة. وأنّ الحل ليس في الدخول في صدام مصيري مع إيران، بل في تقاسم الأدوار والنفوذ في ترسيم مستقبل منطقة الشرق الأوسط.
واجهت رؤية أوباما غضباً عربياً، وسخطاً من الحلفاء والأصدقاء المفترضين للولايات المتحدة الأميركية، واعتُبرت، في أوساط سياسية وإعلامية، وقاحة وغير دبلوماسية، وقرأنا ردوداً، وفي أحيان شتائم ضد الرئيس الأميركي، ضمن حملة ردود الفعل المصدومة مما جاء فيها. لكن، في نهاية اليوم، لم يخرج ما قاله أوباما عن دائرة القول الحقيقي الصادق الصريح، غير المراوغ، في رؤية دوائر التفكير والقرار والسياسة في واشنطن للسياسات العربية ولأوضاع المنطقة ومستقبلها. لذلك، يمكن أن تتغير هذه السياسات تكتيكياً أو جزئياً تجاه ملف من ملفات المنطقة العربية في المستقبل، لكنها ليست فقط عقيدة أوباما، ولا هي عقدته، كما يحلو لبعضهم القول) بل هي نتائج نقاشات ومناظرات وتطورات في رؤية الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ الرئيس جورج بوش الابن، أي الإدارة الجمهورية والمحافظين الجدد، وصولاً إلى أوباما نفسه.
تناولتُ، سابقاً، تحولات الرؤية الأميركية تجاه المنطقة العربية، والسعودية تحديداً، وذكّرت بالنظريات والمراجعات الضخمة التي خرجت في دوائر التفكير والبحث في واشنطن، غداة أحداث “11 سبتمبر”2001، وأخذت تتدحرج مثل كرة الثلج، في إعادة تعريف السياسات الأميركية في المنطقة ونقدها، والأخطاء التاريخية في العقود السابقة، في دعم الأنظمة العربية السنية الأتوقراطية، ما نقل الأزمة من الداخل إلى الخارج، وأذكر قول أحد الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين بعد مدّة قصيرة من أحداث سبتمبر لي: لو هنالك ديمقراطية في السعودية لكان أسامة بن لادن نائباً معارضاً في البرلمان السعودي، مثل عبد المنعم أبو زنط في الأردن، لكنّه لن يخرج إلى أفغانستان ليهدد مصالحنا.
تغير جوهر الرؤية- المقاربة الأميركة للسعودية بعد تلك الأحداث، ثم انقلبت الرؤية نفسها مع أحداث الربيع العربي، وجرّب الأميركيون منذ 2001- 2013 نظريات ومقاربات كثيرة جديدة، ففي العام 2005، خرجت إدارة بوش بمبادرة أعلنتها وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك،كوندوليزا رايس، “الشرق الأوسط الكبير”، التي تتضمن نشر الديمقراطية بوصفها السلاح الناجع ضد الإرهاب، ثم الشرق الأوسط الموسّع، ونظريات الفوضى الخلاّقة التي حاولت التخفيف من مخاوف أوساط سياسية أميركية من انهيار النظام الرسمي العربي لصالح أنظمة جديدة ذات طابع إسلامي. ولاحقاً مع الربيع العربي، حاولت إدارة أوباما اختبار نتائج هذه الانهيارات، بالتخلّي عن حلفائها مثل حسني مبارك وزين العابدين بن علي، والمساهمة في إسقاط معمر القذافي، ودعم إسقاط بشار الأسد.
يقول مارتن إنديك في مقالته التي علّق فيها على مقالة غولديبرغ إنّ انهيار نظام الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط بدأ مع التخلي عن أحد أعمدة هذه السياسة، وهو الرئيس المصري حسني مبارك. لكن، وفقاً لغولديبرغ وإنديك كذلك، فإنّ المنعطف الآخر تمثّل بحادثة مقتل السفير الأميركي، جون ستيفينز، ودبلوماسيين آخرين، في بنغازي في سبتمبر/ أيلول 2012، إذ بدأت الأصوات التي تطالب بدعم التغيير نحو الديمقراطية بالتراجع، وأصبحت السياسة الأميركية أكثر ارتباكاً على صعيد الرؤية الكلية، فدعم الأنظمة أدى إلى صعود “القاعدة”، فيما لم يأت التغيير بالديمقراطية، بقدر ما أتاح المجال كذلك للحركات الإسلامية، بألوانها المختلفة، لاحتلال الفراغ!
ثم جاء الانقلاب العسكري في مصر لاحقاً ليعزز من القناعة بعدم وجود تصوّر أميركي واضح، في تقرير المطلوب، دعم الوضع القائم واحتواء التغيير (كما كان يطالب الحلفاء المحافظون العرب) أم دعم التغيير والدخول في عهد الفوضى الخلاقة، ما كان يعني عدم وجود “ضمانات” للمصالح الأميركية. إلاّ أنّ الرئيس أوباما اختار أن يتعامل مع المنطقة بصورة أكثر جذريةً، عبر التخلّي عنها بوصفها منطقة أساسية في المصالح الأميركية، وأخذ نفساً عميقاً، بعدما أنهى القلق من السلاح النووي الإيراني، وتأكّد من أن إسرائيل في وضع آمن نسبياً اليوم، بعد انفجار الصراعات الداخلية العربية.
سواء أتى ديمقراطي أو جمهوري إلى البيت الأبيض، فإنّ النتائج التي وصل إليها أوباما لم تكن عابرة أو مجرد موقف شخصي، بل هي، أولاً، انعكاس لما وصلت إليه الأوضاع الفعلية في المنطقة العربية، فالسياسة الأميركية عموماً براغماتية، ولا تصطدم بالواقع، وثانياً هي (عقيدة أوباما) نتيجة مناظرات ونقاشات معمّقة في داوئر البحث والتفكير والسياسة في واشنطن، ما يعني أنّنا أمام خلاصاتٍ استراتيجيةٍ حول مصير المنطقة ومستقبلها.
المصدر : العربي الجديد