للكرد حقوقٌ ولا شك، لكن التقسيم ليس منها بالتأكيد. ما يفعله زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، صالح مسلم، يصب في اتجاه الميول الانفصالية، والمفارقة أن كل سياساته تتم ومؤسسات النظام موجودة في أماكن “فيدراليته”، وبعلاقةٍ مميزةٍ مع إيران، وبتوافق مع الأميركان والروس، وبما يعزّز من سيطرته على الكرد والعرب في شمال سورية. وبتأسيس إدارةٍ ذاتيةٍ، وتشكيل مليشيا، ثم قوات سورية الديمقراطية، فإن هذه السياسات اكتملت مع إعلان فيدراليته.
بعد الهدنة وإعلان الفيدرالية، انقلب الموقف الدولي، فرفضت أميركا وروسيا والنظام والمعارضة سياسات صالح مسلم، ولا سيما الفيدرالية والحكم الذاتي، وهناك تنسيق تركي إيراني بعد زيارة رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، طهران، أخيراً، لرفض هذا الموضوع، وربما تنسيق بخصوص المرحلة الانتقالية في سورية. الأخطر في ذلك كله أن صالح مسلم يؤسس لعداوات مستقبلية بين العرب والكرد.
الحقوق الثقافية للكرد، ومنها الجنسية لقسم منهم، وبغض النظر عن سبب عدم التجنيس، حقوق صحيحة، وهناك تمييز قومي ضدهم، وهذا صحيح بدوره، لكن الصحيح كذلك أن كل المنطقة الشرقية كانت تعاني الأمرّين من عدم وجود تنميةٍ، ولا سيما وأنها منطقةٌ غنية بالنفط والغاز والمياه والتربة الخصبة والماشية وسواها.
المظلومية الكردية، واختراع مصطلح كردستان الغربية، والرؤية الشوفينية ضد العرب، وهي بوجه منها ردة فعل لسياسات النظام، لكنها تمأسس ميولاً انفصالية كذلك، أو عدائية ضد بقية السوريين. الإشكال هنا أن أكثرية منطقة شمال سورية عربية، وفيها سريان وتركمان، وفيها مناطق عربية صافية، تقطع بين المناطق التي يدّعى أن أكثريتها كردية، ويحاول حزب الاتحاد الديمقراطي تأسيس فيدراليته، وتحديداً بين رأس العين وعفرين، وهذا ما يمنع تحقيق أي مشروع مستقل، ويحوله إلى مشروع وهمي، ووصفة للاقتتال المستقبلي.
المظلومية الكردية التي تحولت إلى أسطورة الاضطهاد الوحيدة في سورية، وأن كل الكرد مضطهدون، ليس من النظام بل من المعارضة ومن الشعب كذلك، يُراد منها تحقيق حالة من الانفصال الكامل عن العرب، وطرح المساواة الكاملة مع العرب. وبالتالي، وبدلاً من حق المواطنة للجميع، يصبح الحق المطروح هو حق تقرير المصير. لا يستوي الأخير والبقاءَ ضمن سورية موحدة، بل يطرح في إطار التقسيم، أو التمتع الكامل بشمال سورية، وبشكل شبه مستقل عن بقية سورية؛ وهذا غير ممكن، لأسباب ديموغرافية وإقليمية مرفوضة من روسيا وأميركا، وبالتالي، هذا الشطح الكردي هنا، يزرع أوهاماً كثيرة، تؤسس لحروب أهلية مستقبلية.
المشكلة مع باقي السوريين أن القوى السياسية الكردية لم تقف عند مطلب المواطنة وحقوق ثقافية مميزة، بل وضعوا قضية مبادئ دستورية، أو فوق دستورية، تنص على أن سورية مؤلفة من قومية أولى وقومية ثانية، وإن كان سليماً حذف كلمة العربية من سورية، فإن اعتبار الكرد قومية ثانية تأسيس لمشكلة حقيقية للمستقبل، وتتعلق حصراً بمشاريع حق تقرير المصير، وهذا ما دفع العرب، نظاماً ومعارضةً، لرفضها، عدا الرفض الكردي لمشروع صالح مسلم.
هناك مشكلة تتعلق بالشعور بالتخاذل، فالكرد أعلنوا مظلوميةً كبيرة، وأن العرب لم يؤازروهم في انتفاضة 2004، والتي جاءت في سياق التحضير الأميركي لغزو سورية حينذاك، لكنها مستمدة، أصلاً، من غياب الحقوق الكردية في سورية، وقتل العشرات، واعتقال مئاتٍ من الأكراد حينها، وهذا الشعور، وبدلاً من أن يشكل رافعةً لتعزيز الصلات العربية الكردية، ولا سيما مع قوى الثورة، فإن الكرد عزّزوا رؤية سياسية منفصلة عن العرب، وتنطلق من الهم القومي، أولاً، ومستغلين الحرب التي أعلنها النظام ضد العرب الثائرين.
وقبالة ذلك، بقيت مؤسسات النظام في مناطق سيطرة حزب صالح مسلم، ولاحقاً أعطاهم سلاحاً كثيراً، وفعل الشيء عينه مع داعش، حينما ترك له مستودعات سلاح كاملة. عمّق هذا الوقائع الشرخ الشعبي بين العرب والكرد، واستغلها النظام لتعزيز الشرخ، وكذلك استغلته الجماعات الجهادية. الحصيلة هنا زيادة الفجوة بين القوميتين، ووصل الأمر إلى اعتبار العرب دواعش والكرد ليسوا سوريين، وبالتالي، انفصاليين، وهذا يمنع تأسيس أي صلاتٍ بين الشعبين.
بتطبيق الهدنة، الحرب بين السوريين، ومنها تقدم قوات سورية الديمقراطية بحماية روسية وأميركية توقفت. الوقت الآن، لعملية سياسية تنهي المأساة السورية، ويأتي إعلان الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الفيدرالية لرفض تمثيل حزبه في المفاوضات الجارية، وطبعاً لتقديم أوراقه في أية مفاوضات سرية بخصوص مستقبل سورية. الفيدرالية، وعلى الرغم من أنها تؤسس لعداوات قومية، واحتكاره التمثيل السياسي الكردي، وإجبار بقية الأطراف، ومنها المجلس الوطني الكردي، على إضافة صالح مسلم، إلى أي تفاوض جدي بخصوص سورية.
الممكن كردياً هي حقوق ثقافية من تعليم ونشر وسوى ذلك باللغة الكردية، وحق المواطنة للجميع، والتخلص من أي قرارات ضد الكرد، بما فيها تغيير أسماء القرى وإيجاد حل للعرب المغمورين. أما بخصوص قضايا، كالحكم الذاتي، أو حقوق أكبر كالفيدرالية، أو الجيش الذي ينشئه صالح مسلم، فستكون جزءاً من أعمال البرلمان المقبل في سورية، وضمن آليات الاستفتاء العام، وفي إطار اللامركزية الإدارية.
الممكن سورياً لامركزية إدارية، وفقاً للجغرافيا، تسمح بالاستفادة من ثروات سورية، من أجل التنمية، وتجاوز ما فعلته الحرب الكارثية، وإنهاء المظلومية والعداوات القومية، وتأسيس بنية اقتصادية صناعية، تسمح بتنمية مستدامة.
نعم، لن تعود سورية إلى ما كانت عليه، لكنها ستكون للجميع، وأفضل مما كانت عليه.
المصدر : العربي الجديد