مقالات

بدر الإبراهيم – عقيدة أوباما وقواعد واشنطن

سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما مثيرة للجدل، وتُواجه بنقدٍ عنيف، ليس فقط من مناوئيه الجمهوريين، وإنما من بعض الديمقراطيين أيضاً، وبعض حلفاء الولايات المتحدة في العالم، ويتمحور النقد أساساً حول تقاعس أوباما عن اتخاذ قراراتٍ حاسمةٍ ضروريةٍ بخصوص استخدام القوة الأميركية، لا سيما في أزمات منطقتنا العربية.

كتب جيفري غولدبيرغ مقالاً مطولاً في مجلة ذي أتلانتك، شمل مجموعة أحاديث طويلة مع أوباما، أُجريت على مدى شهور، يتحدّث فيها عن رؤيته للسياسة الخارجية، أو ما سماها الكاتب في عنوان مقاله “عقيدة أوباما”، ويحاول أوباما الرد على منتقديه، موحياً أنه انفصل عن كتاب “قواعد واشنطن”، وهو يقصد أن هناك قواعد في التعامل مع الأحداث المختلفة، أرستها مؤسسة السياسة الخارجية، ويُفترض أن يلتزم بها الرؤساء المتعاقبون في واشنطن، تميل عادةً إلى الردود العسكرية في التعاطي مع الأزمات، فيما يرى أوباما أن اتباع كتاب القواعد هذا يمكن أن يكون فخاً مؤدياً إلى اتخاذ قراراتٍ سيئة، بينما هناك أسبابٌ وجيهةٌ في بعض الحالات لعدم الأخذ بهذه القواعد، كما في رفضه استخدام القوة بشكل مباشر في سورية.

هل يقرأ أوباما من كتابٍ آخر غير كتاب قواعد واشنطن؟ لا شيء يدل على ذلك، بل هو في الحقيقة يطبّق قواعد واشنطن القاضية باستخدام القوة العسكرية، بوصفها جزءاً رئيساً من الدور الأميركي في العالم، وتمظهر الهيمنة الأميركية، لكنه يتخفّف من كلفة استخدام القوة، ويحاول تقليلها قدر الإمكان، ويرفض خوض مغامراتٍ على طريقة سلفه جورج بوش الابن.

يرى أوباما أنه ليس انعزالياً في سياسته الخارجية، بل واقعي، والواقعية تقتضي اختيار المكان الذي يمكن للولايات المتحدة أن يكون لها فيه تأثير حقيقي. لكن واقعية أوباما عند التدقيق فيها، بعيداً عن اختياراته للكلمات المنمقة، ليست إلا سياسة تقشف، تمنع التوسّع في التدخلات العسكرية وتضبطها، وهي تقوم باختصار على: “التراجع، وخفض النفقات، والحد من المجازفة، ونقل الأعباء إلى الحلفاء”، كما يوضح ستيفن سيستانوفيتش، خبير السياسة الخارجية الرئاسية في مجلس العلاقات الخارجية، ويضيف أنه لو تم انتخاب جون ماكين عام 2008 لرأينا درجة من التقشف، لأن هذا ما أرادته الدولة، بعد حربٍ لم تسر بشكلٍ إيجابي في العراق. يشير هذا إلى أن أوباما لم يختلف سوى في درجة التقشف، وفي تقديراته لما يجب أن يتدخّل فيه وما لا يجب، وهو مثل بقية الرؤساء خاض حروباً وشغّل الآلة العسكرية الأميركية، لكنه اختلف عن جورج بوش الابن، في عدم خوضه مغامراتٍ كبيرة، والاعتماد على تقليل النفقات بسبب مغامرات الأخير، وترجم هذا بالاعتماد على سلاح الطيران دون القوات البرية، كما في ليبيا ثم ضد تنظيم داعش في العراق وسورية، وخوض حروب الطائرات من دون طيار، في اليمن وباكستان وأفغانستان. 

اعتمد أوباما أيضاً على إشراك الحلفاء في تحمل المسؤولية، وهو يرفض فكرة “الانتفاع بالمجان” التي يطبقها بعض حلفائه، ويضرب مثلاً بالتدخل في ليبيا، إذ يؤكد أن الفرنسيين والبريطانيين لم يتحملوا مسؤولياتهم بالشكل الكافي، وأنه حاول إعطاء دورٍ لفرنسا في قيادة التحالف وبنائه، لدفعها إلى العمل أكثر، على الرغم من أن أميركا هي التي أوجدت البنية التحتية للتدخل. توجه أوباما يشدد على العمل المشترك عبر أحلاف، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بقضيةٍ لا تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الأميركي، وهو يعتمد على وجود قوةٍ تقاتل على الأرض، نيابة عن الجنود الأميركيين، وهكذا يدير حربه على “الإرهاب”، وتحديداً ضد تنظيم داعش، كما يشرح مسؤولون في إدارته: سلاحٌ جوي، وعمليات للقوات الخاصة، وعملٌ استخباراتي سري مع جيشٍ من آلاف المتمردين في سورية.

حجم التوقعات من أوباما، وتوقعاته من حلفائه أيضاً، أصابت الطرفين بخيبة أمل متبادلة، من دون إغفال نظرة أوباما قبل ذلك إلى بعض حلفاء أميركا التقليديين، وعدم قناعته بالتعامل معهم، وعلى الرغم من ذلك، كان واقعياً في التزامه بقواعد واشنطن في تعاطيه معهم، مع هامش اختلاف. التدقيق في سياسة أوباما تظهر التزاماً بالمؤسسة ورؤيتها، وامتلاكه، في الوقت نفسه، هامش مناورةٍ ما، مكنه من الظهور بمظهر المختلف عن رؤساءَ طبقوا قواعد واشنطن، لكنه في المجمل طبّق سياسة تقشف، يبدو أنها تترك بصمتها حتى على برامج مناوئيه من مرشحي الحزب الجمهوري.

لعل حديث أوباما غير مرة عن حاجة المسلمين إلى القيام بإصلاحاتٍ تُكيِّف الإسلام مع الحداثة، تشير إلى محاولته التهرّب من الأزمة التي تشكلها التدخلات الإمبريالية لأميركا في المنطقة العربية، فقد دعا المسلمين إلى التوقف عن التظاهر بأن سبب مشكلات المنطقة هي إسرائيل، التي تبرز نموذجاً واضحاً لأعمال الهيمنة الاستعمارية الغربية. تغدو المشكلة ثقافيةً، تتعلق بمواءمة الإسلام مع الحداثة، في حين لا يرى أوباما أن التدخلات الأميركية تُشكِّل قبله (ومعه في شكلها الأقل كلفة ومجازفة) رفضاً لكل تجربة للتحديث وبناء ذاتٍ مستقلة في المنطقة.

إنها عقيدة أوباما في استمرار لوم الآخرين على بؤسهم، مع تجاهل دوره باعتباره واحداً من صنّاع هذا البؤس، ودعوة هؤلاء إلى تعديل أوضاعهم، بما يتلاءم مع الانضواء تحت مظلة الهيمنة الأميركية. 

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى