في لبنان الحريات الفائضـة، سمعنا وقرأنا الكثير عن اللجوء السوري وعن تجاوزات اللبنانيين و”عنصريتهم” تجاه السوريين، ناهيك عن التعليقات والتقارير التي تقارن بين الأوضاع في كل من الأردن وتركيا ولبنان لجهة تبخيس وإدانة التعامل اللبناني مع السوريين وتملق المعاملة الأردنية والتركية.
من المؤكد أن ردود أفعال البعض اصطبغت بالعنصرية في كثير من الأحيان، ومن بينهم مسؤولون كبار. لكن لا بد هنا من الإشارة إلى أن السمة التي تطبع سلوك اللبنانيين في تعاملهم مع اليد العاملة الوافدة، تتصف أحياناً بالتمييز والتعامل الفوقي سواء أكانت من البلدان العربية أم من آسيا. ولهذا مصدران، الأول هو سمة التعميم والتعصب المذهبي والديني بين اللبنانيين أنفسهم قبل الآخرين، وثانيا رهاب التوطين الناتج عن اللجوء الفلسطيني والضغط الذي حصل على لبنان واللبنانيين إن لناحية الديموغرافيا، أو لناحية الكفاح المسلح ومقولة إن تحرير فلسطين يمر من جونية على غرار مقولة البعض الآخر الآن من أن طريق القدس يمر من دمشق وبغداد وصنعاء وغيرها.
مع ذلك لا يمكن المقارنة عشوائيا بين هذه البلدان في تفاعلها مع اللجوء السوري. ففي مقابل ضعف الدولة اللبنانية وانحلالها وتبعثر السلطة ومصادرة قرارها ومنع انتخاب رئيس، من المعلوم أن الأردن يتمتع بحكم قوي وبسلطة مركزية ووضع أمني ممسوك وقدرة على الرقابة والضبط مشهود لها عالميا.
أما المثير للعجب فمقارنة لبنان بتركيا، البلد القوي اقتصاديا والذي يفوق عدد سكانه السبعين مليون نسمة حيث تكون نسبة اللاجئين، وهم أقل من 3 ملايين نسمة، حوالي 3 بالمئة من السكان.
أما لبنان الذي اعترف بان كي مون، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، أنه يستضيف أكبر عدد من اللاجئين في العالم نسبة إلى عـدد سكانـه، فيستقبل في أقل تقدير وحسب الأرقام الرسمية ما يعادل نصف عـدد السكـان. وهـذا وضع غير مسبوق كونيا. لقد غرق الاتحاد الأوروبي بالمشاكل وهو مهدد بالتفكك جراء استقباله أقل من مليون نسمة مع ما يتمتع به من قدرات.
جميعنا نعلـم من دروس الفيزياء والكيميـاء أن التفـاعلات في وعاء مليء تختلف عنها في وعاء فـارغ. وأن الازدحام الشديد في ظـروف صعبـة يؤثر على التفاعـلات العصبية كيميـائيا وهرمونياً، ويؤدي إلى ردود فعـل شاذة وعنيفة من ضمن قانون نفساني معروف؛ “إن التكيف مع أوضاع شاذة يؤدي إلى سلوك شاذ”.
مع ذلك نلاحظ أنه بالـرغم من معاناة البلد من المشاكل على جميع الصعد، نجح لبنان في تدبر أمـر استقبـال هـذا العدد الهائل من اللاجئين واستيعابهـم دون أن ينفجر.
لكن هذا لا يعني أن الأخطار لم تتزايد وأن الأمن المجتمعي غير مهدد، وقد تبلغ المخاطر حدا حرجاً إذا لم تعالج المسألة بمسؤولية أكبر من السلطات اللبنانية والدولية أيضاً.
أما التجاوزات الحاصلة وطريقة تعامل البعض مع السوريين، فينبغي النظر إليها من زاوية النتائج التي تترتب عن الظروف الطارئة، كما في حالة الكوارث الكبرى، التي تضغط على المستوى النفسي الاجتماعي، وتطال آثارها سلوك الأفراد والجماعات عند الجانبيْن اللبناني والسوري.
ولا يجب أن يغيب عن بالنا التاريخ الخاص المثقل بين الشعبين، فلم يتعرف اللبنانيون، عموماً، في العقود الثلاثة الأخيرة إلا على وجهيْن من الانسان السوري: وجه اليد العاملة الفقيرة، ووجه الهيمنة العسكرية والمخابراتية المعلومة النتائج. مع ما يعني ذلك من آثار مؤلمة. لم يتعرفوا على الطبقة المتوسطة حقا إلا بسبب الحرب.
لذا تصبح إدانة السلوك اللبناني بالمطلق، وما نقرأه من مقالات وتعليقات، فيه الكثير من المبالغة في إظهار المشاكل “الطبيعية” الناتجة عن وضع “غير طبيعي” وفيه الكثير من المغالطات. ومن أسبابها الفلتان الإعلامي والبحث عن أي سكوب للإثارة.
في لبنان يسهل الانتقاد والافتراء دون تحمل العواقب وأقصى ما قد يتعرض له الفاعل تمني وزير الإعلام عليه “باحترام أصول اللياقات والأدب”، عكس تركيا أو الأردن.
لذا أجد أنه رغم كل ما يقال يبدو أن اللاجئين السوريين يتمتعون في لبنان بوضعية مقبولة، كما أنهم يتدبرون أنفسهم قدر المستطاع كما هو حال المواطن اللبناني الذي يشاركهم نفس الظروف الصعبة.
هذا لا يعني التقليل من العنف المجتمعي المتصاعد والاستغلال وأنواع إساءة المعاملة التي تطالعنا بها الصحف والتقارير. ومعالجتها لا تكون بتبادل الاتهامات، بل بالعمل على التخفيف من الأوضاع الشاذة والضغط الاقتصادي والمعيشي والازدحام ومنع استغلال البعض لوضع الضعفاء، إضافة إلى استغلال هؤلاء الآخيرين لبعضهم البعض. ناهيك عن أن الكثير من اللبنانيين يعيشون في شروط مشابهة نوعا ما، وهذه مسألة يعلن بعض المسؤولين الدوليين أنهم ليسوا مسؤولين عنها بل الحكومة اللبنانية هي المسؤولة! وهذا صحيح لكن اللجوء السوري زاد نسبة البطالة لمنافسته اليد العاملة اللبنانية وحمّل البلد ككل أعباء اقتصادية وبنيوية. ومن المعلوم أن أول من يتأثر بأي فشل أو قصور رسمي هم الضعفاء مرة أخرى.
لكن المفجع في الموضوع والعطب الأساسي في التعامل مع الأزمة السورية كان انتظار وصول تأثيرات المشكلة إلى أوروبا كي تبدأ، بخجل، عملية البحث عن حلول جذرية والانتباه، عند البعض فقط، أن مصدر الإرهاب والمشاكل هو في بقاء بشار الأسد ونظامه، وليس في الإرهاب الذي نتج لاحقاً عن سلوكه وسياساته التي ساعدت على إيجاد داعش وشاكلته.
ظلت المشكلة حتى الآن محلية ولم تحظ البلدان المضيفة، ذات البنية الضعيفة أصلاً، على المساعدة الكافية قبل أن تضيق أوروبا باستيعاب عدة مئات من الآلاف مقابل الملايين في البلدان المحيطة.
ما يلفت الانتباه أنني لم أشارك مرة في فاعلية تتمحور حول اللجوء السوري وكيفية مواجهته والتعامل معه وجرى فيها نقاش حقيقي لجوهر المشكلة ومسبباتها. غالباً ما تم التعامل مع اللجوء السوري وكأنه كارثة طبيعية نزلت بالشعب السوري كالقضاء والقدر، وينشغل الجميع بكيفية التعامل مع ذيول المشكلة وآثارها، وليس بوقف التهجير الحاصل بالعنف والقتل والقمع والترحيل، إضافة إلى استخدام التضييق على المواطنين السوريين وتعطيشهم وتجويعهم وهدم مدارسهم ومستشفياتهم المنهجي.
يحاول الجميع طمـأنة هواجس اللبنانيين الخائفين من توطين اللاجئين الجدد من أن السوريين لا يرغبون في البقاء في لبنان، مرددين لنسأل أي سوري فسوف يجيب أنه يريد العودة. وكأن المسألة تتعلق برغبات اللاجئين، وكأن اللاجئين الفلسطينيين من قبلهم أرادوا وأحبوا العيش بعيداً عن بلدهم وأرضهم ومنازلهم للتمتع ببؤس مخيماتهم وبرتبة “لاجئ” التي حصلوا عليها.
لا يشار في هذا السياق إلى إيجاد مناطق آمنة من القصف في سوريا نفسها، ولا إلى ضرورة قيام الأمم المتحدة بواجباتها في إيجاد السبل الضرورية لإيصال المساعدات الغذائية والطبية، إلا مؤخرا وبشكل غير كاف، لمن يعانون المحاصرة عدا عن قصفها المستمر بالبراميل المتفجرة والتي أتت الصواريخ الروسية لمساعدتها على زيادة فعالية قدرتها في القتل والتدمير.
الموضة الآن من أجل المزيد من طمأنة اللبنانيين التشديد على ضرورة التمييز بين “الاندماج” و”الاحتواء”، وكأن الموضوع يتعلق بالمصطلحات ودرجة التأقلم والقبول بين الطرفين، وكأنه ليس من حق السوريين في مناطق آمنة من قصف النظام وحلفائه أولا.
المصدر : العرب