تراوح الأزمات في عدد من الدول العربية بين إبطاء الحلول واستحالتها في انتظار متغيّرات إقليمية لا تنفكّ تتأخر أو تتعقّد. الفارق الوحيد بين هذه الأزمات أن بعضاً منها يزهق يومياً أرواحاً بشرية، لكنها جميعاً تدمّر الاقتصاد وتراكم صعوبات مستقبلية. أما الرابط بينها، عدا ليبيا، فهو الدور الإيراني.
وإذ لم تُرفع العقوبات بالسرعة التي توخّتها طهران فإنها اندفعت إلى التصعيد في سورية، وأوصت بالمماطلة في اليمن، وواصلت التأزيم في العراق، فيما تمدّد لتعطيل الدولة في لبنان، وتديم حالاً من الجمود في البحرين، مبقيةً خياراتها للتوتير والتدخّل قائمةً هنا وهناك في المحيط العربي. غير أن مسألة العقوبات مجرّد عنوان لتبرير سياسات إيران، فالقول بأن الاتفاق النووي سيعدّل تغوّلها ويرشحها لمساهمة «إيجابية» في حلّ نزاعات المنطقة لم يكن سوى فرضيّة أميركية معروفٌ مسبقاً أنها خاطئة. بل إن إيران نفسها تشكو حالياً من كونها خُدعت في المفاوضات، إذ وُعدت برفع سلس للعقوبات، وفقاً لجدول زمني وافقت عليه ولم يتمّ التزامه.
كان ثمة أمل بإنهاء الحرب في اليمن قد لاح، أولاً بتغيير ملموس للمعادلة الميدانية، ثم بفتح حوار سعودي مع جماعة الحوثيين، ثم بموافقة هؤلاء على وقف إطلاق النار والذهاب إلى «مشاورات» – وليس مفاوضات – في الكويت. لكن انتهاكات الانقلابيين للهدنة وتأخير وصول وفدي الحوثي وعلي عبدالله صالح أشاعا أجواء تراجع ما لبثت أن انعكست على المحادثات منذ لحظاتها الأولى. وإذا كان القرار الدولي 2216 يتضمّن خريطة الطريق إلى حل سياسي مبني على الحكومة الشرعية، فإن مفتاح هذا الحل يكمن في اعتراف الحوثيين وحليفهم علي عبدالله صالح بهذه الشرعية. وهذا غير وارد وغير مؤكد، إذ لا يزال الانقلابيون يرون فيه استسلاماً مكلفاً عسكرياً وسياسياً. والسؤال هنا: مَن يملك قرار وقف القتال، الحوثيون أم الإيرانيون؟
كان الحوار مع السعودية والموافقة على إجراء «المشاورات» في الكويت إشارتين إيرانيتين إلى الرياض وعواصم الخليج بأن الحل ممكنٌ، لكنه يمرّ بـ «حوار» مع طهران. وطالما أن الموقف السعودي – الخليجي من هذا الحوار لم يتغيّر فإن التوصية الإيرانية للانقلابيين هي التفاوض للتفاوض وإضاعة الوقت طالما أنهم يسيطرون على مدن الشمال ويحاصرون كُبراها تعز.
في سورية، ومنذ الهدنة التي فرضها الأميركيون والروس للمرة الأولى، أواخر شباط (فبراير) الماضي، ساد تفاؤل ضئيل وحذر بأن مفاوضات جنيف ستقلع أخيراً لبلورة حل سياسي بموجب القرار 2254. لم تدم الهدنة سوى ساعات في بعض الجبهات، ثم راحت تترنح إلى أن انهارت كليّاً، وبالتوازي جُمّدت المفاوضات، فتحقق لنظام بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين ما أرادوه لاستئناف خطط «حسم عسكري» لن يتحقق إلا بانخراط روسي كامل فيها، وهي لا تعني سوى القضاء نهائياً على «الانتقال السياسي»، فكرةً ومبدأً وخياراً.
كان الانسحاب الذي أعلنه فلاديمير بوتين مجرّد مناورة روسية قيل إن بين أهدافها الضغط على النظام السوري لينخرط جدّياً في عملية سياسية. ثم أُعلن أن الأميركيين والروس تشجعوا بالهدنة واستعدوا لدعم المفاوضات فدخلوا في نقاش على مستقبل الأسد حسمه بوتين بأن الإيرانيين يعارضون تنحيته، وخاضوا نقاشاً آخر لم تُعرف نتيجته بشأن «إعلان دستوري» يحكم الفترة الانتقالية ولو بوجود الأسد. لم يتطرّقوا أبداً إلى تحركات إيران والميليشيات التابعة لها على رغم أن خطورتها على الهدنة كانت واضحة. وانتهى الأميركيون الأسبوع الماضي إلى «اكتشاف» أن الروس ينقلون معدّات ثقيلة نحو حلب، ليتبيّن أولاً أن الاتفاق على «الهدنة» لم يغيّر خطط روسيا، وثانياً أن توافقات موسكو وطهران أكثر فاعلية وثباتاً من تفاهمات موسكو وواشنطن، بمعزلٍ عن النتائج.
لم يخض الجيش العراقي أي معركة ضد تنظيم «داعش» من دون أن تكون مرفقة بتوتر سياسي في بغداد. حصل ذلك في تكريت سابقاً وفي الأنبار أخيراً، سواء بسبب مشاركة ميليشيات «الحشد الشعبي» أو بسبب منعها أميركياً من المشاركة. ومع اقتراب الجيش من المعركة الرئيسية في الموصل، اشتدّ التأزم على خلفية تناحر أتباع إيران وانكشاف فشلهم في الحكم، فضلاً عن مأزق مالي للدولة وانعدام ثقة اجتماعي بها. ذاك أن عودة الأميركيين لمواكبة الحرب على «داعش» أعادت شيئاً من التوازن إلى صيغة «تقاسم النفوذ» بينهم وبين الإيرانيين، كما فرضت تعديلاً على صيغة الهيمنة الذي بنتها إيران بعد انسحابهم في نهاية 2011 معتمدة على التفريخ المستدام لميليشيات «الحشد». وخلافاً للتهميش الذي انتهجه الإيرانيون حيال الجيش العراقي، عمل الأميركيون على إعادة الاعتبار له وأعادوا هيكلته وتدريبه وطوّروا تسليحه. وعلى رغم رضوخ حيدر العبادي لضغوط إيران بإضفائه «شرعية» على الميليشيات، إلا أن الأميركيين يضغطون لدمج العناصر الصالحة منها في الجيش، وهذه خطوة تندرج في تعزيز مكانة الدولة. ولا شك في أن الأزمة الحكومية الحالية تعكس هواجس إيران مما بعد إنهاء سيطرة «داعش»، الذي سيشكّل محكّاً حاسماً لمشروع الدولة في العراق وكذلك لمستقبل الهيمنة الإيرانية.
استطاعت الدولة في البحرين أن تحمي البلد من النهج التخريبي لأتباع إيران، وعلى رغم أنهم تسبّبوا بأفدح الأضرار للاقتصاد الوطني، فإن الدولة لا تزال مستعدة لحوار وطني يطوّر الإصلاحات ويحافظ على التعايش بين مكوّنات المجتمع، لكنهم ينتظرون التعليمات من طهران التي تنتظر بدورها متغيّرات إقليمية، ولذلك فهي تحضّهم على إدامة مناخ الأزمة بدل المساهمة في الانفراج والمشاركة في رسم المستقبل. على العكس، لم تستطع الدولة اللبنانية الصمود أمام خداع «سلاح المقاومة» الذي كسب شرعيته في محاربة إسرائيل وخسرها في إفساد السلم الأهلي، ثم بانضوائه في آلة النظام السوري للقتل والتدمير.
لم تكتفِ ميليشيا «حزب الله» بالانخراط في حرب قذرة واحدة خارج الحدود بل قادتها وظيفتها الإيرانية إلى كل الحروب، الى أن استحقت تصنيفها ارهابيةً يجوز ضدّها ما يجوز ضد «داعش». ولم تكتف بتجاوز الدولة في لبنان بل عملت على إضعافها، ثم تعطيل انتخاب رئيسها وتقييد الحكومة ثم وضع البلد على لوائح الاشتباه الدولي فضلاً عن تعريض قطاعه المصرفي، وهو عماد الاقتصاد، لقيود عالمية لا تزال في بدايتها.
لا شك في أن واقع الاستقطاب الدولي بين أميركا متردّدة وروسيا هائجة زيّن لإيران أوهامها «الامبراطورية»، ويسّر تهوّراتها العابثة بأمن شعوب المنطقة واستقرارها، لكن هشاشة الصيغ الطائفية والمذهبية للسلطة هنا وهناك، أتاحت لها بثّ شرورها وسمومها التي فاقت مفاعيل قنبلتها النووية المفقودة. وفيما أدّت التدخّلات الإيرانية إلى تداعي خرائط سورية والعراق واليمن، وربما لبنان أيضاً، تقدّم الخطر الفارسي على الخطر الإسرائيلي الصهيوني، فما ارتكبه الثاني من قتل وتدمير على مدى سبعة عقود وهو عدو خارجي ارتكب الأول أضعافه في بضعة أعوام وهو عدوٌ داخلي – خارجي. ومع أن إيران وإسرائيل تتظاهران بألدّ العداء إلا أن عداءهما الفعلي للعرب وحّدهما وجعلهما شريكَي معركة يحقّق فيها كلٌ منهما للآخر ما يتمنّاه من أهداف.
في أوج الاندفاع نحو السلام في الشرق الأوسط، لم تستطع إسرائيل، خلافاً لرغبة حليفها الأميركي، أن تتحوّل إلى دولة مساهمة في حل أزمة المنطقة. خشيت أن يؤدي السلام إلى تراجع عسكرتها وإجرامها اللذين أصبحا شريان الحياة بالنسبة إليها، وفضلت معاهدات انتقائية لا تزعجها في إدامة احتلالها للأراضي الفلسطينية، فمن خلال هذا الاحتلال تتحكّم بالمنطقة. وفي سياق البحث عن حلول تفاوضية لسورية أو اليمن، لا يختلف النهج الإيراني في أهدافه عن النهج الإسرائيلي، لكنه ربما يختلف في الشكل، إذ تبحث إيران عن رزمة حلول متزامنة ومنبثقة من تفاهم مع الولايات المتحدة بشأن نفوذها الإقليمي ليلتقي بمقدار أقل أو أكثر مع تفاهمها مع روسيا، فهي تتصرّف كأنها ابتلعت لبنان، وعلى وشك الانتصار في سورية، وبين الانتصار والهزيمة في اليمن، أما في العراق فإن ما حققته من هيمنة لا يزال يحظى بقبول أميركي.
المصدر : الحياة