لم يكن حدثا عاديا ذلك الذي شغل تركيا على مدى الأيام القليلة الماضية، فلأول مرة يتنحى – بالأحرى يُنحى – رئيس حزب حاكم وحكومة عن منصبه في ذروة نجاحه، وفق ما تظهره استطلاعات الرأي والمؤشرات الاقتصادية وحالة البلاد بشكل عام رغم عظم التحديات الداخلية والخارجية.
كتب الكثيرون – وكتبنا – عن المعضلة الدستورية بتعارض صلاحيات الرئيس ورئيس الوزراء وعن الصفات الشخصية بين الرجلين القويين في ظل نظام لا يحتمل رأسين، وأشار البعض للوشاوش والدسائس التي حاولت التأثير على كواليس الحزب الحاكم، ولكن في نهاية المطاف فقد أخرج الرجل من المعادلة على غير رغبته بالتأكيد.
صحيح أن ما حدث كان في نهاية المطاف ديمقراطيا – رغم اعتقاد الكثيرين بعكس ذلك – إذ قررت الغالبية الساحقة للهيئة العليا للحزب تحديد صلاحياته (بغض النظر عن سبب ذلك ومن يقف خلفه)، مما دفعه لخيار الاستقالة لئلا يبقى مجرد ديكور أو منفذ تعليمات، لكن الأسلوب والشكل والطريقة افتقدوا لأدنى مقومات التسويق الناجح، فلم يحصل الرضى والإقناع والتأييد الشعبي/الحزبي كما يفترض، وكما تعود العدالة والتنمية دائما.
إذن، في نهاية المطاف، فقد أخرج الرجل من المشهد دون رغبة من قاعدة الحزب أو طلب منها، بل لغياب التناغم الكامل مع مؤسسة الرئاسة، وعليه فإن سؤالا مهما ينبغي أن يطرح بين يدي تحليلات الموقف واستشراف المستقبل: ألم يكن ممكنا احتواء الموقف بحل وسط؟ ولماذا فشلت الوساطات التي حاولت إعادة “الأستاذ” عن قراره؟ لاسيما وأن الكل يعرف أن تغيير القيادة في الحزب الحاكم وإن تم بسلاسة كما هو متوقع، فإنه سيسبب بلبلة للمؤيدين ومادة جيدة للمعارضين وضبابية في المشهد ومزيدا من أحاديث الكواليس، وبعضاً من القلق على مستقبل الحزب على المدى البعيد، فضلا عن النظرة المتوقعة لأي رئيس سيخلف داود أوغلو؟؟!!!
إذن، ينبغي البحث عن مكسب كبير للحزب و/أو الحكومة و/أو الرئاسة بعد هذا القرار الصعب وغير المسبوق، أبعد من مجرد حسم الخلافات الشخصية حول الدستور والنظام الرئاسي. إن معضلة حزب العدالة والتنمية هي عدم حصوله على عدد مقاعد في البرلمان يخوله إنهاء ملف الدستور في البرلمان (367 مقعدا من 550)، ولا حتى لعرضه على استفتاء شعبي (330 مقعدا)، ولذلك فهو يحتاج على الأقل إلى 14 نائبا من أحزاب المعارضة المختلفة ليضيفها إلى 316 نائبا، منه يحق لهم التصويت لإنفاذ السيناريو الثاني، وهو أمر لا يمكن الوثوق به، بل لا يمكن ضمان أن يصوت كل نواب العدالة والتنمية أصلا لمشروع القرار في ظل تصويت سري.
ولذلك، فقد طرحت فكرة الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة كأحد الخيارات للخروج من هذا المأزق، رغم أن أدبيات الرئيس التركي وحزبه تؤكد عدم تبكير الانتخابات إلا في حالات الضرورة القصوى، حفاظا على استقرار المشهد السياسي ونمو الاقتصاد. بيد أن حال المعارضة التركية اليوم قد يفتح الشهية على هذا السيناريو.
فإضافة إلى فشلها المتكرر في إزاحة العدالة والتنمية عن سدة الحكم، وعدم قدرتها حتى على التحالف فيما بينها لتشكيل حكومة ائتلافية تستثنيه بعد انتخابات حزيران/يونيو الفائت، يبدو أن أحزاب المعارضة الثلاثة الممثلة في البرلمان – الشعب الجمهوري والحركة القومية والشعوب الديمقراطي – تعيش مشاكل داخلية وأزمات على مستوى شرعية قياداتها فضلا عن تراجع التأييد الشعبي لها في استطلاعات الرأي.
حزب الحركة القومية يعيش مخاضا صعبا منذ أشهر، حيث دعت قيادات عدة منه إلى عقد هيئة عمومية استثنائية لتغيير نظامه الأساسي، بما يتيح انتخاب رئيس جديد خلفا لدولت بهجلي المستمر في قيادته منذ عام 1997 بلا أي نجاح يذكر، ودون أن يصغي للمعارضة الداخلية. نقل الأمر للمحاكم وما زال الرجل يواجه معارضة شديدة تمثلت بترشح أربع شخصيات من قياداته الكبيرة في مواجهته، وجمعِهم 543 توقيعا مؤيدا (يكفي 249 لعقدها). وفي حين صدر قرار من إحدى المحاكم بعدم شرعية الهيئة العمومية التي كان يفترض أن تعقد البارحة/الأحد، فقد أعلن المرشحون الأربعة أنهم قد جمعوا الآن – مجددا – 748 توقيعا (من أصل 1241 من أعضاء الهيئة العمومية) لتنظيم الهيئة العمومية الاستثنائية الشهر المقبل.
قرار المحكمة – في انتظار قرار مجلس القضاء الأعلى – والدعم الخفي المقدم من وسائل الإعلام المحسوبة على أردوغان والحزب الحاكم تحت دعوى أن مشاكل الحزب تفتعلها جماعة كولن للسيطرة على رئاسة الحزب، أو حيا بدعم العدالة والتنمية و/أو اردوغان لبهجلي. والحقيقة أنه بغض النظر عن مدى صحة هذا الادعاء/الاحتمال، فإن هذا المشهد يفيد العدالة والتنمية من عدة جهات، فالأزمة تبقي الحركة القومية ضعيفة ومشتتة في أزمات داخلية، وقد تحول بعض أنصاره للعدالة والتنمية، وتضغط على رئيسه لتقديم تنازلات في موضوع الدستور للحزب الحاكم وقد أرسل إشارات بهذا الخصوص فعلاً، وتعيق إلى حد ما أي رياح تغيير – إيجابية – قد تطرأ على الحزب مع القيادة الجديدة.
يضاف إلى الحركة القومية أزمة حزب الشعوب الديمقراطي الذي خسر الكثير من شعبيته على خلفية دعمه لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا أو على الأقل عدم التمايز عنه والعجز عن إدانته، بما أنزله – مع الحركة القومية – تحت حاجز %10 في استطلاعات الرأي، وهي النسبة المطلوبة لدخول البرلمان في الانتخابات.
في الخلاصة، إن أي انتخابات برلمانية مبكرة وفق المشهد الحالي قد تمنع الحزبين من دخول البرلمان، أو على الأقل الحركة القومية؛ لأن الأكراد قد يعودون للترشح كمستقلين، وهو ما سيعني تحول الجزء الأكبر من هذه الأصوات للعدالة والتنمية بما يمكنه من حسم موضوع الدستور والنظام الرئاسي بمفرده وعبر البرلمان.
الآن، صحيح أن أدبيات الحزب ترفض الانتخابات المبكرة دون أسباب قاهرة، وأن الدعوة لانتخابات مبكرة قد تسبب بلبلة إضافية تبدو تركيا في غنى عنها، وأن نتيجة الانتخابات لا تحسب بهذه المعادلات البسيطة والجامدة، وأن الناخب قد يختار “تحذير” العدالة والتنمية أو من اتخذ قرار إعادة الانتخابات مرة أخرى على غرار حزيران/يونيو 2015، وأن الأغلبية العددية قد لا تكفي لتمرير الدستور دون معارضة شديدة، لا يمكن الجزم بمستواها وتمظهراتها وموقف الخارج منها، إلا أنها – رغم كل ذلك – تبقى سيناريوها لا يمكن إغفاله وفرصة ممتازة للعدالة والتنمية ومن خلفه الرئيس أردوغان لحسم ملفي الدستور والنظام الرئاسي، اللذين يرونهما ضروريين جداً لمسيرة تركيا المستقبلية.
إن هذا السيناريو، رغم حساسيته ومخاطره وما قد يُبنى عليه أو يَفتح الباب له، قد يفسر لماذا “خاطر” الحزب الحاكم بتغيير رئيسه الناجح وغامر بعقد مؤتمره الاستثنائي، فالثمن إذن كبير ويوازي خسارة بقدر مهندس السياسة الخارجية لتركيا. لقد ذهب البعض إلى حد تحديد تاريخ مبدئي للانتخابات (في الخريف القادم أو الربيع الذي يليه)، لكن الأمر يبقى مغامرة كبيرة وسيخضع قرار البت فيه بطبيعة الحال لعدة عوامل ومعايير وأرقام وإحصاءات وحسابات الربح والخسارة في حينه.
المصدر : عربي 21