يختصر اغتيال القيادي في «حزب الله» مصطفى بدر الدين المأزق الذي بلغته طهران في سياساتها بالمنطقة، لا سيما في سورية.
وفضلاً عن أن رواية الحزب عن أن «الجماعات التكفيرية» هي التي نفذت الاغتيال لم تقنع الكثير من الأوساط، بما فيها بعض محيط الحزب، فإن الارتباك الذي عبر عنه هذا الاتهام يعود إلى التعقيدات التي باتت تحيط بالدور الإيراني في المنطقة وفي سورية. فالاغتيال ضربة موجعة لإيران قبل أن يكون موجعاً للحزب نفسه. ويصبح هذا الاستنتاج حقيقة ساطعة إذا صحت التقارير التي تحدثت عن أن قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني كان مجتمعاً مع بدر الدين قبل العملية، أو أنه كان سيلتقيه.
في كل الأحوال يصعب النظر إلى هذا الحدث بعيداً من الصورة الأوسع للأحداث التي سبقته ورافقته وتبعته.
فإيران خسرت قبل أيام قليلة منه، في خان طومان في ريف حلب، عدداً كبيراً من العسكريين (اعترفت بـ18 بينهم ضابطان كبيران) وعشرات من أعضاء الميليشيات المتعددة الجنسية التي يديرها «الحرس الثوري»، من بينهم مقاتلون للحزب، ما دفع الإعلام في طهران إلى وصف الموقعة بالـ «كارثة». و «لام» بعض القادة الإيرانيين الروس لأن طيرانهم لم يتدخل لمواجهة فصائل «جيش الفتح». وإذا كان هذا الجزء من الصورة لا يلغي ما سبقه من «نجاح» قوات النظام وإيران في حملة القصف الرهيب والأرض المحروقة ضد مناطق سيطرة المعارضة في حلب وريفها، ومئات القتلى من المدنيين الذين سقطوا، وتدمير المستشفيات، فإن الحقيقة القائلة إن لطهران اليد الطولى في سورية ودعم النظام، لا تعني أن انغماسها و «حزب الله» في الحرب السورية سيستمر من دون أثمان باهظة، يستحيل أن تخرج منها سالمة.
على رغم هالة القوة التي اصطنعتها لنفسها بفعل نجاحها في بسط نفوذها في المنطقة على مدى عقود، وجعلتها تهدد أمن العديد من دولها، من المحال أن تتمكن طهران من الحفاظ على تمددها الهجين في الإقليم. هذا من دروس التاريخ القديم والحديث. وإذا كان هذا الاستنتاج نظرياً، فإن الوقائع العملية بدورها لا تخطئ: منذ دخول روسيا المباشر في الحرب السورية باتت إيران أداة من أدوات «الحرب بالواسطة» التي تخوضها موسكو مع واشنطن على النفوذ في ميادين تمتد من البلقان وشرق أوروبا، وصولاً إلى الشرق الأوسط، بعدما كانت تتميز بشطارة صنع الأدوات المتعددة في نشر نفوذها.
تبقى إيران على أهميتها، دولة إقليمية لإمكاناتها حدود في صراع الكبار، وتصبح إذا أرادت التصرف على هواها، عائقاً أمام سعيهم إلى ما يسميه باراك أوباما «السلام البارد» الذي يحكم علاقته بالروس. وهو سلام ينصح حلفاءه «السابقين» الخليجيين بأن يلجأوا إلى مثله مع إيران نفسها.
ومن الطبيعي أن تعتبرها الدول الكبرى مشاكِسة على خططها في سورية، فللكبار وحدهم الحق في خرق اتفاق الهدنة، لأن لذلك حساباته الدقيقة في ظل الاتفاقات بينهم، أو لحاجة أي منهم لتبادل رسائل التصعيد.
مأزق القيادة الإيرانية أنها لم تتمكن حتى الآن من تثمير القوة التي أثبتتها، في التسويات السياسية التي تكرس الاعتراف بدورها الإقليمي. وفي الوقت ذاته لا تستطيع أن تحد من أضرار انغماسها في سورية وغيرها. تجيز للحوثيين وحليفهم علي عبد الله صالح الذهاب إلى الكويت للتفاوض ثم تطلب منهم نقض مرجعيات التفاوض.
تطلب قيام حكم انتقالي خلافاً لقرار مجلس الأمن، مع حصة وازنة لأقلية في اليمن، وترفض بحث الانتقال السياسي في سورية لمصلحة أكثرية، وفق نص القرار الدولي. تعلي من شأن التنسيق الاستراتيجي مع روسيا في بلاد الشام وتمكنهما معاً من انتزاع إقرار واشنطن ببقاء الأسد، وتشيح النظر عن تنسيق يفوقه أهمية بين القيصر ونتانياهو، وتتجاهل قنوات الاتصال بين النظام السوري والدولة العبرية… تعتدّ بخلاف أوباما مع دول الخليج على دورها الإقليمي، وتحسبه لمصلحتها، وتوظف الانفتاح الغربي عليها بعد الاتفاق النووي على أنه اعتراف بتفوقها، وتقرأ انطلاق التفاوض حول اليمن على أنه نتيجة ضغط أميركي، ثم حين تعرقل مشاورات الكويت تفتح خطوط اتصال خلفية مع واشنطن لتعديل أسس المفاوضات، بالتزامن مع اتهامها الأميركيين بنقض رفع العقوبات عنها، بعد مصادرة أموالها، وتحتج على استمرار عقوبات أخرى لرعايتها الإرهاب وتهديدها الاستقرار الإقليمي، على وقع استمرار حملتها على السياسة الأميركية، وافتخار ضباطها بالقبض على بحارة أميركيين.
قبل أن تجري إيران مراجعة لسياستها لا بد من أن تحصل «حوادث طرق»، في مسار عودتها إلى الانضباط وفق التوقيت الدولي.
المصدر : الحياة