مقالات

محمد كريشان – التحرير الحقيقي للفلوجة

«الفلوجة ستكون مثل الرمادي وستعاني من جرائم داعش والميليشيات الإيرانية والحشد الشعبي على حد سواء»، هذا ما قاله المستشار الخاص السابق بالسفارة الأمريكية في العراق علي خضيري الذي اعتبر أن «داعش سيستخدم ذات الأسلوب الذي استخدمه في الرمادي وتكريت من العبوات الناسفة وتفخيخ المباني والبيوت». وفي القابل فإن «الميليشيات وعدت سابقا بألاّ تدخل تكريت وديالى والرمادي، ولكنها في كل مرة تخلّ بوعدها».

إذا صدق هذا التوقع فإن الفلوجة التي تجري حاليا عملية عسكرية واسعة لاستعادتها من قبضة «تنظيم الدولة الإسلامية» بمشاركة توليفة واسعة من القوات والجنسيات مقدمة على السيناريو الأسوأ الذي حذر منه كثيرون أو بالغوا في تصوره إلى درجة اعتبرت تثبيطا لعزائم من يريد إنهاء سيطرة هذا التنظيم على المدينة الممتدة منذ يناير/ كانون الثاني 2014.

يفترض ألا أحد يجادل في مشروعية سعي أي حكومة لاعادة بسط نفوذها على أي قطعة من الوطن، خاصة إذا كان من يقف وراء ذلك جهة مثل «داعش» لا ترى في العالم كله من مهتدين سواها لأن البقية إما مرتدون أو روافض أو كفار. وتزداد الحاجة والمشروعية لمثل هذا السعي كلما أوغل هؤلاء في فرض قانونهم على الواقعين تحت هيمنتهم رغم إرادتهم وبكل الوسائل العنيفة قبل غيرها. مع ذلك، هل أن طبيعة وتركيبة وخطط من يتصدون حاليا لمهمة تحرير الفلوجة من قبضة هؤلاء خالية من أي شوائب ولا تدعو إلى أية هواجس أو تساؤلات على الأقل؟!! قطعا لا. وهل إبداء هذه الملاحظات يعني بالضرورة تأييد من أخذوا الفلوجة رهينة وأهلها دروعا بشرية؟!! قطعا لا أيضا.

أمران لا مفر من التأكيد عليهما لكل من يريد النظر لهذه القضية بمنظار أقرب ما يكون إلى الإنصاف تجاه المدنيين الأبرياء العالقين هناك بين شر أكيد مستوطن بينهم وبين شر قادم ممن يفترض أنهم قادمون لتحريرهم: إبراز معاناة أهالي الفلوجة وضنك العيش الذي يعيشونه حاليا وخطر الموت الذي يهددهم والصعوبة الكبرى التي يكابدونها للفرار بحياتهم لا تعني ويجب ألا تعني قبولا بالأمر الواقع الذي فرضته «داعش» هناك. وفي نفس الوقت الإعراب عن المخاوف العديدة التي يثيرها هؤلاء الذين يقولون إنهم جاؤوا لتخليص المدينة لا تعني ويجب ألا تعني أنه ليس من حق الدولة في العراق أن تضع حدا لهذه الحالة المستهجنة في المدينة.

إذن ما العمل؟ وهل ما قيل سابقا ليس سوى وصفة للعجز وإبقاء الأمر طور المراوحة التي لا تنتهي؟ طبعا لا. التوفيق بين الأمرين لا يتأتى إلا بمحاولة الحكومة العراقية تنقية جهدها الحالي من شبهات تصفية الحساب المذهبية وهذا ليس سهلا وقد لا يكون ممكنا أصلا.

هو أمر متاح نسبيا على الأقل لو حاولت الحكومة صادقة إبعاد كل من يشتم منه هذا النفس المقيت وأساسا قوات «الحشد الشعبي» التي قد لا تختلف كثيرا في تركيبتها وفكرها المطلق والإقصائي ووحشيتها عن «تنظيم الدولة الإسلامية»، وكذلك إبعاد القوات الإيرانية ورموزها المستفزة التي تكرس هذا التوجه بشكل مفضوح أكثر تحت غطاء «محاربة الإرهاب والتكفيريين» رغم أن لهم مآرب أخرى لا ينكرها إلا ساذج أو متواطىء. وقبل ذلك وبعده، لا بد من منح الأمل لأهالي الفلوجة في حياة أفضل ومعاملة رسمية أكثر عدلا وهم الذين لم يعرفوا طوال هذه السنوات سوى المأساة تلو الأخرى.

معاملة المدنيين من أهالي الفلوجة، العالقين حاليا بين مخربين مسيطرين على المدينة وقادمين لتدميرها بدعوى تحريرها، ستكون هي المعيار الأصدق لطبيعة العملية العسكرية الحالية. تخفيف مأساة هؤلاء المدنيين ومعاملتهم بانسانية وليس بروح انتقامية تصنفهم بكل تعسف على أنهم من أنصار «داعش» ومؤيديهم هي الامتحان الحقيقي. لا بد من ذلك رغم أن بعضهم قد يكون فعلا كذلك ولكن السياسة الحكيمة تقتضي محاولة فهم أسبابه بعمق ومعرفة ما إذا كان طوعيا أو تحت إكراه الأوضاع داخل المدينة التي لم تترك لهم من خيار آخر.

هذا كله دون إغفال أن بعض الممارسات الطائفية من حكام العراق وميليشياتهم المنفلتة دفعت البعض إلى الارتماء، غضبا ونكاية، في أحضان ألد أعدائهم.

حرص الحكومة العراقية على كسب معركة الفلوجة بعيدا عن النفس الانتقامي والطائفي والنأي بالنفس عن الإيرانيين الذين يبدون حاليا، وأكثر من أي وقت مضى، وكأنهم ينتقمون لسنوات حربهم الثماني مع العراق ثمانينات القرن الماضي، مع التعامل بكرامة واحترام مع أهالي هذه المدينة المنكوبة فعلا هو مفتاح إنجاز المهمة بأخف التكاليف الممكنة. ما عدا ذلك، لن يعدو عن أن يكون مزيدا من الهروب إلى الأمام.. نحو حفر ساحقة أكثر فأكثر.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى