في الكتابة التحليلية عما يجري في سورية بعد ما يقرب من ست سنوات من الحروب على اختلافها، هناك من يفضل التزام الحد الأدنى من الموضوعية والحياد لكن يخشى أن يؤخذ بجريمة الفكر، على رغم هذه الأجواء البركانية السائدة من المحيط إلى المحيط ومن الخليج إلى الخليج.
ويبقى أن الأمر محاولة موضوعية مع احتمال الوقوع في الخطأ، مقابل اجتهادات أخرى تنطوي على بعض النسبية من الصحة.
بعد انقضاء هذا الوقت الطويل من اشتعال الجبهات وتعدد أطراف المشاركين أصبح بالإمكان التحدث عن «الحال السورية». ومع تقادم الزمن يتزامن طرح الكثير من علامات الاستفهام والتعجب!؟
وبعض الأمثلة والشواهد كثيرة وشديدة التعقيد: من يقاتل من؟ ومن يتحالف مع من؟ ومن يتآمر مع من؟ في السر أو العلانية أو خلف الكواليس؟
وجديد الوضع هو قديمه. آخر الوسطاء الأمميين كان قبل الوسيط الحالي ستيفان دي ميستورا الديبلوماسي الجزائري «المعتق» الأخضر الإبراهيمي، والذي أسقط في يده بعدما استنفد كل المحاولات لإحداث اختراق في جدار الحرب المستعرة. سئل الإبراهيمي أخيراً: ما تقديرك لما ستؤول إليه الأوضاع؟ أجاب: أخشى ما أخشاه «صوملة» سورية.
إننا نسوق هذا الكلام ليس من قبيل تظهير الوضع المأسوي في سورية، بقدر ما هو للتوقف عند ملامح الأوضاع الآتية على بلاد الشام ودول الجوار المشتعلة بدورها، وللحديث عن فشل جميع المحاولات التي بذلت لوقف أتون الحرب الذي لا ولن تقتصر حدود اشتعاله على جغرافيا محددة، ولبنان ليس ببعيد عن مآسي تواصل الحروب الضارية، بين بلدان أخرى يزحف إليها الصراع في مختلف أبعاده.
وسنعرض لآخر المستجدات السورية وتوابعها وفق التبويب التالي:
أولاً: كلما تزايد الكلام عن تقدم الحل السياسي ازداد القتال تأجيجاً، ما يؤكد أن لا جدوى من التوصل إلى حل سياسي بعد كل تعقيدات هذه الحرب والنتائج الممتدة لخمس سنوات ويزيد. وقد ظهر الرئيس بشار الأسد قبل أيام أمام مجلس الشعب (الجديد) طارحاً عرضه للسلام، وبدا وكأن تصوره للحل يختلف كلياً عن «الحل الدولي المقترح» لإنهاء الأزمة.
لقد ظهر الرجل وكأنه ما زال يمسك بزمام المبادرة في مسألة الحرب والسلام، وظهر بوضوح وجلاء الاختلاف البين في الطروحات السلمية المتداولة.
كذلك بدا واضحاً الاختلاف في تبويب الأولويات، فالمعارضات السورية تريد الدخول مباشرة في محادثات تسلم السلطة القادمة، فيما أجندة الأسد تدعو إلى إنهاء الإرهاب أولاً، ثم العمل على تأليف حكومة وحدة وطنية تضم سائر الأطياف. وهذا التباعد لا ينبئ بالتوصل إلى أي حل، ما يؤكد بوضوح أن الحروب في سورية مستمرة.
ثانياً: إن استمرار الاختلاف في سلم أولويات الحل يؤشر إلى المزيد في تصاعد الأعمال العسكرية، سواء من جانب الجيش السوري مدعوماً من الطائرات العسكرية الروسية، أو الأفرقاء والمعارضين من «داعش» إلى «جبهة النصرة» وما يعادلهما.
إن «توقف» مسار جنيف يمثل إشارة واضحة لتعثر المحادثات، واستناداً إلى معلومات لمصادر مواكبة للوضع السوري، فالحل ما زال بعيد المنال وسط المعطيات القائمة. وتؤكد هذه المصادر لــ»الحياة» أن المحادثات السياسية في جنيف أو في فيينا ليست إلا غطاء لاستمرار القتال والمزيد من فصول النزاع المدمر.
ثالثاً: هناك الكثير من علامات الاستفهام حول حقيقة المواقف الأميركية والروسية حيال تواصل الأزمة، ويبدو التباعد بين الموقفين واضحاً.فالرئيس فلاديمير بوتين ماضٍ في استغلال عدم قدرة أو عدم رغبة الرئيس باراك أوباما التورط العسكري وهو يوضب حقائبه لمغادرة البيت الأبيض بعد الانتخابات الرئاسية المقرر أن تجرى في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
رابعاً: استناداً إلى المعطيات المتوافرة تبدو المشهدية السورية على الشكل التالي: النظام بقيادة الأسد لم يتمكن من استرداد المواقع التي خسرها في القتال مع كافة أنواع المعارضات والجنسيات المتعددة التي تشارك في الحرب. وفي المقابل لم تتمكن القوى الأخرى المسلحة من السيطرة على كامل أرجاء التراب السوري. وحيال إصرار كل فريق على موقفه يتجه الحل إلى الآتي:
لأن الرئيس الأسد لم ولن يتمكن من استعادة السيطرة على الجغرافية السورية فسيكتفي بالبقاء ضمن حدود جغرافية معينة محددة الأعراق والطوائف والمذاهب. أما الجواب الآخر الخطير فيتمثل في أن عديد الدراسات التي قدمت للأمم المتحدة والتي حملها دي ميستورا تؤكد أن الأقسام الخارجة عن سلطة الأسد ستكون موضع نزاع بين مختلف الأطراف المتقاتلة، ما يعني عملياً استمرار النزيف السوري الحاد، وأيضاً اتجاه سورية نحو «تقسيم ما» جغرافي وعرقي ومذهبي.
وفي سياق متصل لوحظ في الآونة الأخيرة ظهور أطراف مقاتلة كالفريق الكردي مثلاً، والذي يقاتل بشراسة مدعوماً من بعض الجهات الدولية وفي طليعتها الولايات المتحدة. وتكمن خطورة هذا التطور أن ذاك الفريق الذي يقاتل بشراسة تحت مسمى القوى الديموقراطية، يعمل بموجب مبدأ: قاتلوا… واحتلوا الأراضي التي تتمكنون من تحريرها.
وهذا يعني التوصل إلى المشهدية التالية: حصة الأسد ستقتصر على مناطق نفوذ النظام حالياً وقاعدتها العسكرية الروسية في الحميميم، وتضم إليها بعض المناطق المجاورة. لكن ماذا عن الباقي من الأراضي السورية!
وثمة من يشير إلى أن وحدة سورية لا يمكن العودة إلى ما كانت عليه، ويبقى «التقسيم» لا بوصفه الحل المفضل، بل الحل المتاح المتمثل في المعطيات القائمة حالياً.
وهذا يعني استطراداً أن «حصة الأسد» تذهب للأسد، أما الباقي من الجغرافيا السورية فموضع «تناتش» من جانب القوات المعارضة أو المعترضة على البقاء في ظل الأسد.
قد تبدو هذه الصورة غير مقنعة لبعض المراهنين على التطورات في سورية، ولكن لا يكفي نفي قيام التقسيم حتى لا يحصل. كذلك فهذا «التقسيم» ليس «الحل الأفضل»، بل على العكس هو «أبغض الحلال»، لكنه الحل المتاح حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وهناك أمر مريب يتصل بالعلاقات الروسية – الأميركية حيال سورية. فهناك العديد من القرائن الحسية على «تفاهم ضمني» حتى لا نسمي ذلك «تواطؤاً» ينتزع فيه المكاسبَ اللاعب الروسي بوتين عبر عسكره وعبر ديبلوماسيته المتمثلة بوزير الخارجية سيرغي لافروف.
وهنا يلاحظ أن «القيصر الروسي» يلعب بمهارة على المسرح السوري الدامي وهو يعلم أن الرئيس أوباما أصبح كـ»البطة العرجاء» قبل رحيله عن البيت الأبيض بعد شهور فقط.
ويعلم بوتين أن أوباما لم يعد يريد حرق أصابعه في النار الشرق أوسطية وبخاصة بعد العراق. وعلى رغم ذلك هناك معلومات تؤكد وجود بعض «التقنيين الأميركيين» ممن يعرّف عنهم بالمستشارين الذين يقدمون الخدمات للعمليات العسكرية في سورية والعراق. وقد كشفت فرنسا خلال الساعات الماضية عن وجود قوات فرنسية في الداخل السوري يقتصر دورها على «تقديم الاستشارات» على حد تعبير مصادر باريس.
وفي المحصلة الأخيرة لا بد من التوكيد على النقاط الرئيسية التالية:
لا يكفي تطوع بعض الأصوات التي تؤكد في شكل قاطع «عدم تقسيم سورية» كي لا يقع التقسيم، وفي الرد على هذا المعطى نقول أننا لا نسوق لتقسيم سورية، أو إعطاء الانطباع بأنه الحل الأفضل، لكن استمرار الحرب والعمليات العسكرية خمس سنوات أدى إلى بروز واقع جديد لم يعد معه ممكناً تعايش سائر الأفرقاء في حدود واحدة موحدة.
والنتيجة: ما كتب لسورية قد كتب!
ومن هذا المعطى يذهب الأخضر الإبراهيمي إلى توقع سقوط سورية في «الصوملة» وفق المخطط التالي: يبقي نظام الأسد سيطرة ولو جزئية على ما تبقى لديه من واقع جغرافي محدد، وتقدم روسيا له الدعم العسكري والسياسي. أما سائر المناطق فتبقى عرضه للاقتتال بين أكثر من طرف. وحدث خلال الأيام الأخيرة أن خاضت القوى الكردية قتالاً مع «داعش» و»النصرة»، حيث تقتضي «الخطة» سيطرة الأكراد على الأراضي التي يحررونها من «العناصر الإرهابية».
لقد أظهر التباين في سلم الأولويات واقعاً تقسيمياً واضحاً: الأسد في اللاذقية ودير الزور والعاصمة دمشق، فيما سائر المناطق لمن ستكتب له الغلبة في القتال الضاري والمشتعل.
فالكلام عن فيلم أميركي روسي طويل ليس ببدعة بل هو حقيقة واقعة. وبناء على ما تقدم فأي قرار فعلي يتصل بمسار «الحال السورية» سيكون حصراً بين طهران وواشنطن وموسكو والبقية تأتي.
وهكذا فمصائر شعوب المنطقة رهن تضارب وتقاطع المصالح سواء في الإقليم أو في عواصم القرار الأخرى.
والصورة الماثلة أمامنا تقول: سيبقى الرئيس الأسد على رأس «سورية ما» فيما يستمر الصراع المصلحي على كل ما عداه، وسيتولى «تنظيم الدولة» والنصرة» ما تبقى.
لقد بدأت الأحداث في سورية بشكل محدد وتطورت إلى أشكال شديدة التعقيد، وسوف تنتهي البراكين بشكل آخر يختلف عن سائر الطروحات التي أظهرتها هذه الحرب الضروس.
ولا يمكن ختام المقال من دون التعرض إلى التداعيات الإقليمية والدولية التي أسفرت عنها النيران السورية المشتعلة، وللحديث ولو بشكل خاطف عن حروب الإحالة وحروب الوكالة. وهذا سياق متصل لا بد فيه من التوقف عند اجتماع طهران الذي ضم إيران وسورية وروسيا، وهذا موقف شديد الوضوح بتعقيداته وتداعياته المرتقبة نظراً للأدوار المحورية التي تتحكم بأزمة حل الأزمة السورية. وفي هذا المجال، قال أوباما في توصيفه للوضع: «إن ما يجري في سورية حرب أهلية في جانب وحرب بالوكالة في جانب آخر». صدق أوباما هذه المرة… وعليه يبقى أن أي تعديل أو تبديل في مسار الحرب سيكون في إيران وروسيا، وباقي التفاصيل تأتي لاحقاً.
المصدر : الحياة