أعود إلى الموقع الفرنسيّ www.leconflitsyrienpourlesnuls.org أي «شرح النزاع السوري للغَشيم» وأتوقّف عند عرضه الأطراف السياسية الضالعة في الحرب السورية. يبدأ العرض من النظام فيقابل ما بين الصور الغربية المتعارضة لبشّار الأسد وما في «حداثته» و«علمانيته» و«حمايته للأقلّيات» من غشّ جسيم.
ثم يستطلع غاية النظام من الحرب وعوامل صموده وإمكان استعادته نوعاً من الشرعية… ولا يفوته، في هذا المساق، أن يختم التعريف بالنظام برسمٍ بياني يوضح أن 9025 مدنيّاً قتلوا في سوريّا في النصف الأوّل من سنة 2015 وأن نصيب النظام من هذه المقتلة كان 87,5% فيما تولّت داعش بقيّتها أي 12,5% لا غير. هذا تنبيه يفترض أن يكون له وقع خاصّ على أوروبيين باتوا نزّاعين، بعد الضربات التي تلقّوها من داعش، إلى المفاضلة بين هذه الأخيرة والنظام الأسدي والسؤال عمّا إذا لم يكن سائغاً لهم التعويل على النظام في مواجهتهم إرهاب «الدولة»…
وأمّا المعارضة السياسية في سوريّا فيسجّل العرض عجزها عن الاستواء بديلاً للنظام والوقع الثقيل لهذا العجز على أفق الصراع كلّه. يذكر الاستعراض أسباباً لهذا العجز: من طول إقامة السوريين خارج كلّ مراسٍ سياسي إلى ما يقابل ذلك من تعقيد في الصراع يوجب تمرّس الخائضين… فإلى ما هو معلومٌ من تشرذمٍ ومن خضوع للتجاذب الخارجي…
أهمّ من ذلك أن العرض لا يفوته، ههنا أيضاً، ما يفوت كثيرين: وهو أن كثرةً من السوريين قد طلبت الخلاص من نظام الأسد وأن حَمَلة هذا الطلب بقي منهم، على الرغم من الثقل الساحق للقمع ولسائر المعوّقات، قوىً معتبرة تشهد بتضحياتها وبمواقفها لاستمراره. من هذه القوى يذكر العرض منظّمات المجتمع المدني الكثيرة الصامدة، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وعناصر الدفاع المدني الشجعان والمجالس المحليّة التي تدير حياة الجماعات اليومية والمثقفين على اختلاف فروع الحرفة… هذه الحلقة يختمها الاستعراض بعودةٍ إلى داعش توضح ضعف ما لقيه انتشارها من مقاومة من جانب النظام وحلفائه بالقياس إلى ما لقيته من قمع قوىً سلمية وأخرى مسلّحة أبدت ولاءً للخيار الديمقراطي.
هذا الضعف لم يباشر تعويضه سوى انتقال الصراع الإقليمي الدولي على سوريّا إلى داخل البلاد واتّخاذه وجهاً عسكريّاً مباشراً على أرضها. وهو ما جعل التصدّي لداعش والتنافس فيه مدخلاً من مداخل اعتمدها كلّ من الأطراف الخارجية لتسويغ وجوده في الميدان السوري ورسم موقعه في الصراع. وهذا مع العلم أن زيادة الخشية الدولية المباشرة من داعش، بعد ما نفّذته هذه الأخيرة من ضرباتٍ في بلادٍ بعيدةٍ عن سوريّا والعراق، هي وحدها ما رفع حدّة التصدّي لها إلى درجة أصبحت مرجّحة التأثير في صمودها.
وإذ يستكمل العرض بهذا عناصر الصورة الداخلية يعكف تباعاً على النطاقين المتبقّيين من الصراع: الإقليمي والدُولي، وهما ظاهرا التشابك. يذكر وقع اللجوء السوري على أقطار المحيط: على تركيا التي تستقبل مليونين ومائتي ألف، على لبنان الذي يستقبل مليوناً ونصف مليون، على الأردن الذي يستقبل 800 ألف، على العراق الذي يستقبل 245 ألفاً، على مصر التي تستقبل 137 ألفاً… هذا الوقع يشخّص العرض بإيجاز كليّ تغايره بين كلّ من هذه الدول والأخريات، وذلك تبعاً لتغايرها من وجوه عدّة.
بعد ذلك، يأتي السؤال: مَن يدعم مَن في سوريّا؟ ولا مفاجأة في الأجوبة: إيران تدعم النظام الأسدي دعماً متعدّد الوجوه وحزب الله اللبناني الموالي لها (فضلاً عن ميليشياتٍ أخرى مشابهة) ضالع في القتال بجانب قوّات النظام. تريد إيران حفظ التواصل الاستراتيجي في الخطّ الممتدّ من طهران إلى بغداد فإلى دمشق وبيروت.
وتريد منع نظام سنّي ينضمّ إلى المحور المناوئ لها في المحيط من الاستقرار في دمشق. وأما دول النفط الخليجية فأخذت علماً بكون واشنطن لا ترى أولوية، في ما يتعدّى التصريحات، لدعم قوى الثورة السورية وهو ما عرفته تركيا أيضاً. وكانت السعودية وقطر قد بادرتا سريعاً إلى دعم مقاومي النظام، وبغيتهما الحدّ من توسّع النفوذ الإيراني. ولكن هذا الدعم رزحت عليه قيود وأفضى استقلال كلّ من طرفيه بأهدافه إلى زيادة الانقسام في صفوف المدعومين. وهذا تنافس تراجع وقعه بالتدريج لصالح الدور السعودي وهو ما جعل اجتماع المعارضة السورية في الرياض، في كانون الأوّل 2015، تمهيداً لاستئناف محادثات التسوية في نيويورك، أمراً ممكناً.
يبقى، في النطاق الإقليمي، موقف إسرائيل. يسترجع العرض ما وجّهته الأخيرة من ضربات إلى مراكز أبحاث عسكرية سورية وإلى قوافل لحزب الله مستدلا بذلك على المتابعة الدقيقة لمجريات النزاع ولكن من غير تأثيرٍ ذي أهمّيةٍ في مجراه. ذاك مظهر من مظاهر الخلاف القائم في إسرائيل بين مفضّل لبقاء النظام الأسدي الذي كان قد اثبت مدّة عشرات من السنين حرصه على هدوء الحدود مع إسرائيل ومحبّذ لنشوء نظام للجهاديين السنّة في دمشق يعزل حزب الله ومن ورائه إيران.
في المضمار الدولي، ينوّه العرض برغبة بوتين في استعادة ماضي النفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط وبحرصه على بشّار الأسد حليفاً وحيداً باقياً له في هذا المقلب وزبوناً أوّل. وهو ما تعزّزه الخشية الروسية الداخلية من تنامي قوّة الإسلاميين. ذاك ما ظهر، على الخصوص، في دعم النظام الأسدي بالفيتو الروسي تكراراً في مجلس الأمن ثم نقل الدعم الروسي، ابتداءً من أيلول 2015، إلى مرحلة الدخول المباشر في حربٍ جوّية تذرّعت بمقاتلة الإرهاب ولكنّها شملت سائر الفصائل المعارضة للنظام وانتشلت هذا الأخير من ضائقة عسكرية وسياسية كانت تزداد شدةً.
يلي هذا استذكارٌ لأطوار الموقف الأمريكي: من التراجع، في آب 2013، عن اعتبار واقعة القتل الجماعي لـ 1700 مدني بالسلاح الكيماوي خطّاً أحمر إلى إعلان أوباما، في أواخر العام التالي، افتقار الولايات المتحّدة إلى إستراتيجية سورية. وهو ما استوى إجازة بالقتل للنظام الأسدي لم يستثن من بين أدواتها البراميل المتفجّرة المشحونة بغاز الكلور. هذا الاستنكاف الأمريكي لم يكن له أن يشمل الظاهرة الجهادية. فكان أن أطلق إقدام داعش على الإعدام الوحشي لمواطنٍ أمريكي حملة قصف جوّي لهذا التنظيم صحبها تراخٍ متدرّج في واشنطن لمعارضة التصوّر الروسي للحلّ السياسي المقبول في سوريّا…
يعرّج العرض بعد ذلك على الانقسام الأوروبي بصدد الأزمة السورية وينوّه بما تولّته فرنسا من متابعةٍ إيجابية لمحطّات النزاع انتهت إلى الرفض المزدوج للأسدية والداعشية باعتبارهما لا يضمنان سلاماً في سوريّا. على أن تصريحاً من الأمين العامّ للأمم المتحدة، في خريف 2015، استثنى فرنسا من لائحة دولٍ (عددها خمسٌ) اعتبرها ممسكة بمقاليد النزاع السوري…
يبقى، في نهاية المطاف، أن مثابرة النظام الأسدي على موقفه الاستئثاري لا تزكّي حلا قريباً للأزمة. فما تزال المبادرات المتتابعة تخبو وتتبدّد. وما يزال المندوب الثالث للأمم المتّحدة يعدّ جولة محادثات جديدة (لا تستثنى منها إيران هذه المرّة) من غير ظهور تغييرٍ يزكّي الأمل في تثبيت سكّةٍ لحلّ سياسي.
ولكن ما الذي حصل للسوريّين ولسوريّا فيما لا يني أفق الحلّ يبتعد أو يأبى أن يقترب؟ ذاك هو السؤال الأَوْلى بالعناية… ونستطلع، في عجالتنا المقبلة، ما يقترحه الموقع الفرنسيّ جواباً عن هذا السؤال إذا طرحه «غَشيم»…
المصدر : القدس العربي