ليسوا حشّاشين، من أتباع شيخ الجبل، حسن الصباح، ولا قرامطةً، يتّبعون أبو طاهر ابن أبي سعيد، في غزواته ضد المسلمين، من البصرة إلى الحجاز، يقتلونهم، ويستبيحون أعراضهم، وأموالهم. لكن أتباع أبي بكر البغدادي ليسوا بعيدين عن هذا، على الرغم من خروجهم من لعبة “الظاهر والباطن” لإباحة قتل البشر، من أورلاندو الأميركية وحتى إسطنبول التركية، ومن بغداد دار السلام إلى مدينة النبي وقرب مسجده وقبره.
على الرغم من أن عقيدة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليست باطنية، إن صحّ أن لهم عقيدة غير “الدولة”، إلا أن صرختهم لن تختلف كثيراً، عن شعار أبي طاهر بن أبي سعيد، أحد قادة القرامطة في القرن الرابع الهجري، حين رفع راية “أجهزوا على الكفار وعبدة الأحجار”، حين استباح قتل المسلمين، في حرم الله، في مكة المكرمة. فهم يفعلون هذا حرفياً، كل يوم، على امتداد ساحات ندائهم، من أقاصي الأرض، حتى أقاصيها، حتى استباحوا حرم الله فعلياً، في المدينة المنورة.
بعد غزو القرامطة البصرة، وفرض ضرائب على الناس، قام أبو طاهر ابن أبي سعيد، باعتراض قوافل الحجاج في الحجاز، فقتل الرجال، وسبى النساء والأطفال، حتى دخل مكة، وسرق الحجر الأسود، وقلع باب الكعبة، و”فرش” حرم الله بجثث الرجال، كما وصف مؤرخون ضحايا هجوم القرامطة على الحرم المكي.
عجزت “الخلافة الإسلامية” عن التخلص من القرامطة، حتى هادنتهم، ودفعت لهم “جزيةً” مقدارها 120 ألف دينار، بمعايير ذلك الزمان، بعد أن احتلوا الكوفة. ولم يُعاد الحجر الأسود إلى مكة، إلا بعد عشرين سنة، من اقتلاع القرامطة له، أول مرة.
لا يبدو أننا أمامٍ مشهد مختلف، بعد سلسلة الاعتداءات الإجرامية التي ضربت المنطقة في الأيام القليلة الماضية، من بغداد إلى القطيف، ومن إسطنبول إلى أورلاندو، حتى جاءت ذروة عدمية المشهد، باستهداف حرم الله، ومدينة نبيه، في آخر شهر رمضان.
لن يُعدم منفذو هذه الاعتداءات التبريرات، سيصفون العملية بأنها موجهة ضد رجال الأمن، المحكوم عليهم مسبقاً بـ”الكفر والردة”، في أدبيات داعش والقاعدة. لكن هذا لن يغيّر من حقيقة أن هذه العملية الانتحارية التي شهدتها المدينة المنورة تتجاوز بعدها الحرفي إلى انتحارٍ رمزي لتنظيم داعش، إن صح الوصف، كما كان استهداف مبنى الأمن العام، في 2004 في الرياض، انتحاراً فعلياً ورمزياً لتنظيم القاعدة، فانهار التنظيم بعد الحادثة في السعودية.
تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بات يضع “الدولة”، دولته، فوق أي اعتبار دينيٍّ أو أخلاقي، فأصبح يبرّر كل فعل، باعتباره خطوةً لترسيخ مشروعه السياسي في المنطقة، وبناء “خلافته”. فقام حرفياً هذه المرة، بتعطيل الملة التي يدّعي تمثيلها، وبرّر كل جرائمه واستباحته دماء الأبرياء، بتأويلاتٍ دينيةٍ تخدم مشروعه السياسي، فالدولة فوق كل شيء، حتى أحكام الدين الذي تدّعي تمثيله.
لن يستطيع تنظيم داعش الخلاص من وزر استهداف المدينة المنورة وعاره، مهما فعل، فالتنظيم الذي كان يسارع إلى تبني أي عمل إرهابي، في أية بقعةٍ في العالم، وكان يضع هذه العمليات ضمن رؤيةٍ استراتيجيةٍ واسعة “هجمات الذئاب المنفردة” لن يستطيع أن يأتي اليوم، بعد أن رسّخ سياساته وطريقته، أن يدّعي أن “انحرافاً” ما ضرب منهجه المنحرف ابتداءً. ولن يقوى على استنكار عملياتٍ، كان يشجعها عند المربع الأول، كما أن استنكاره لن يجدي.
كان التنظيم، طوال الوقت، يستمتع بتبني عملياتٍ يُقتل فيها أبرياء، وتستهدف كل شيء، حتى مساجد الله، فلن يستطيع اليوم أن يتراجع خطوةً إلى الوراء، بعد أن ذهب أحد “ذئابه” خطوةً إلى الأمام، واستهدف حرم الله، في المدينة المنورة، ليعلن أن التنظيم أبعد ما يكون عن أيِّ شرع، وأقرب ما يكون إلى تلك الفرق، التي كنا نقرأ عنها في التاريخ، كالحشاشين والقرامطة، ثم بتنا نعايش إحداها، تتمدّد من العراق إلى سورية، وتقتل البشر من إسطنبول إلى مدينة رسول الله.
المصدر : العربي الجديد