ينفجر الخزان البشري الذي اتُفق على تسميته “داعش”، وتنتشر العناصر المتطرّفة على امتداد الأفق، وتضرب في بقاعٍ بعيدة عن مركز “الدولة الإسلامية” في العراق والشام، وتهزّ أمن العالم واستقراره.
يصرخ شابان في فرنسا “داعش … داعش”، قبل أن يذبحا كاهناً ودوداً في إحدى قرى فرنسا الوادعة. وفي ألمانيا، تعقِّد قنابلُ التطرف ظروفَ اللاجئين، وتعطل عليهم دخول البلاد، أو الحصول على إقاماتٍ دائمةٍ فيها، خصوصاً عندما تنشر السلطات الألمانية خبرَ مبايعة طالب لجوء سوري “داعش”، ضمن ملف منفذ التفجير الذي حدث قرب حفل موسيقي جنوب البلاد.
تهيب الولايات المتحدة برعاياها في السعودية أن تتخذ الحيطة والحذر، بعد تفجير استهدف قنصليتها في جدة، من دون أن تحدّد خطوات حماية النفس التي على الأميركي المتنقل على أراضي السعودية أن يقوم بها، طالما أن التنظيم يمكن أن يصل إلى أي مكان، وأن الجرائم تجري باسمه من دون أن نسمع أو نرى شواهد محسوسةً، تؤكد أن لأبي بكر البغدادي دوراً في التخطيط أو التدبير لهذا التفجير أو ذاك.
تنظيم القاعدة، المنبع الأيديولوجي المفترض المنتِج لـ “الدولة الإسلامية” التي خرجت عن طاعته، كان له غرفة عمليات، ورأس مدبّر معروف باسم أسامة بن لادن. انتشرت منذ عام 2000 صور لرجل أسمر، حاد الملامح، يرتدي ثياباً بيضاءَ بسيطة، ذي عينين واسعتين، ونظرة مركزة وواثقة، تبعث في قلوب المريدين الإعجاب والمهابة، ما لبث أن أصبح قائداً ملهماً لأكبر تنظيم سلفي وقتها، ودريئةً لأي جيشٍ يرغب في محاربة الإرهاب. كان بن لادن، ومن بعده الظواهري، يسجلان فيديوهاتٍ ومقاطع صوتية يتبنيان فيها أي حدثٍ ترتب له “القاعدة” أو تقوم به، بالإضافة إلى رسائل يوجهانها إلى الدول العدوة، وإلى الشباب المجاهد للالتحاق بالتنظيم، ويستوجب فك ارتباط أي فرعٍ عن القاعدة إعلان رسمي بالصوت والصورة، كما فعل الجولاني أخيراً. بينما تغيب المركزية عن “دولة” داعش، ويتوسع الاسم حتى يستطيع أي منفذ هجوم، يكون الدين الإسلامي مرجعيته المعلنة، أن يقحم نفسه تحت راية التنظيم.
تختلف كتائب “داعش” الموجودة في أطراف دمشق وحمص عن تلك الموجودة في الشمال الشرقي السوري، وفي العراق، وغالباً لا يعرف المجاهدون زملاءهم البعيدين، وقد لا تتيح الظروف جمعهم، ناهيك عن الأفراد المنتشرين في أوروبا وفي كل بقاع العالم، فلا يربط بينهم إلا فكرة السلفية الجهادية طريقاً لبث الرعب في قلوب الأعداء، أو للسيطرة على مناطق رخوةٍ، نتجت عن تفسّخ جيوشٍ نظاميةٍ عانت من تمرّداتٍ شعبيةٍ قامت ضدها، كما تشترك الكتائب الموالية لـ”داعش”، بطرق توفير المال الذي يمدّ بقاءها، ويعتبر الخطف والابتزاز وتهريب النفط وبيعه، بشكله الخام أو المكرّر بطرق بدائية، أهم هذه الطرق.
وطالما أن البغدادي أو أحداً من مساعديه المعروفين لا يظهر في أي تسجيلٍ يتبنى فيه حوادث وتفجيرات، يقال إن “داعش” قامت بها، نستطيع بهذه الحال أن نسمي كل عمل إرهابي يذهب ضحيته مدنيون، أو تنهار بنى خدمية، وتكون مرجعية منفذيه أصولية، عملاً داعشياً. وبالتالي، يتبع منفذه مؤسسة “داعش”، حتى لو كان يدين بمسيحيةٍ متعصبة أو كان شيعياً تم تحريضه للانتقام من قتلة الحسين. لست هنا أمام حالة مقاربةٍ أو تشبيهٍ بين تياراتٍ تستعدي بعضها، بقدر ما هي محاولة لإعادة تعريف حالةٍ راهنةٍ مستعصية، اصطلح على تسمية قسمها المسلم “السني” داعش.
في عصر ما بعد الحداثة، حيث التطوّر المهول في صناعة الأسلحة وتسريع “سيرفرات” الإنترنت بشكلٍ يؤمن وصولاً سلساً، ويسهِّل استلاب ضمائر شباب حائرين ومخذولين، حين يتراجع الاهتمام أو يتقلص بذل الجهد في توفير تطبيق عملي لقيم العدالة والمساواة بين الشعوب، ترتفع أسهم شركة داعش، لتفتك منتوجاتها بأقصى بقاع العالم بعداً وأمناً وسلاماً، وتتحوّل دورة الأرض إلى دقائق صمتٍ على أرواح ضحايا، سنحصي جثثهم كل يوم.
المصدر : العربي الجديد