مقالات

ميشيل كيلو – لا منقذ غير الثورة

ليس هناك من شهادة على سوء حال عرب اليوم أشد صدقاً من موقف النخب المتحالفة مع الأمر القائم، الرافضة مقاصد الربيع العربي، وتعتقد أن الإنسان لا يكون حراً في دنياه إلا بقدر ما يكون عبداً لآخرته.

وليس هناك من دليل على إفلاس هذه النخب أشدّ نصاعةً من عجزها عن أن ترى في الانتفاضة الشعبية ضد الفساد الإنساني والخراب السياسي جهداً مفصلياً وإنقاذياً، ينهض به عوام الناس من أجل أوطانهم، دولاً ومجتمعات، قبيل سقوطها الوشيك أمام تحدياتٍ لن تقدر على مواجهتها في ظل أوضاعها الراهنة التي تبلورت في سياق هزائم أنزلها بها الخارج، وتهاوٍ داخلي أنزله بها الممسكون بمجتمعاتها، تواصلت أكثر من نصف قرن، لو وعت النخب المعنية مسؤولياتها حيالها، وأدركت حجم مخاطرها المحدقة بالمؤمنين، لبادرت إلى القيام، استباقياً أو منذ وقت طويل، بالتمهيد الروحي الضروري لتغيير أحوالها، ولدعمت الربيع العربي الذي استهدف إنجازه على مستوى الواقع، وما فيه من بنى سياسية واجتماعية وقانونية، إدراكاً منها لفرادة الربيع التاريخية، وللسياق الذي ينضوي فيه، بردوده على حقبة السقوط التي بدأت في عصرنا مع استيلاء الصهاينة على فلسطين، ومهد لها سقوط مقاومة النخب الإسلامية أمام الاستعمار خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، وتعايش معظم قطاعاتها مع بنى متأخرة وتابعة، ومثله فشل نخبهم “الحديثة”، الاشتراكية منها والقومية والليبرالية والإسلامية في تحرير شعوبها من التأخر والجهل والفكر اللاعقلاني، وأمتها من انقساماتها وضعفها وتخلفها: على أكثر من صعيد، وفي كل مجال.

هذه النخب، بتأخرها وركود وعيها وانغلاقه، وغربتها عن المعرفة والواقع في آن معاً، وعن مجتمعاتها وأوطانها، لم تمتلك القدرة على إدراك محمولات الربيع التجديدية ومسائله التاريخية، المشحونة برهاناتٍ ومضامين في تحققها خروج العرب من فواتهم المادي والروحي: شرط خروجهم من الفوات الوطني والقومي، السياسي والاجتماعي، الاقتصادي والإداري، الثقافي والمعرفي، وانخراطهم بإيجابية في تفاعل مبدع مع واقعهم هو ما رمى إليه الربيع، فلا عجب إن عادَتْه هذه النخب، ولعبت دوراً خطيراً في دعم كل من عمل لإجهاضه أو تطاول عليه من قوى جهل وظلامية، أو سعدت بدخوله في متاهات متنوعة، داخلية وخارجية، استهدف بها وسعت إلى إفشاله، بمساعدة قوى الاستبداد السياسي/ الشمولي التي انخرطت، بعد لحظاته الأولى، في إبادة حملته من بنات شعبه وأبنائه، بدل أن تمد لهم يد العون، وتعينهم على تخطي ما يواجههم من مخاطر جسيمة، وتنزل معهم إلى الشارع من أجل تحقيق مقاصدهم النبيلة: التغييرية والثورية.

بدل اغتنام فرصةٍ قد لا تتكرر خلال القرن الحالي، جسّدتها ثورة قطاعات هائلة من المواطنين التونسيين والمصريين واليمنيين والعراقيين والسوريين، من أجل إنجاز تغيير جذري طال انتظارها له، يبدل واقعها الفاسد المحتجز بالاستبداد، سارعت فئات أفرزت نخباً ما دون سياسية، وما تحت وطنية أو إنسانية، غارقة في الرثاثة، وجاهلة بنص الإسلام وروحه، إلى أدلجة ثورة الربيع العربي مذهبياً، بتعاونٍ صريح مع الاستبداد الأسدي، ما دون الدولوي وقبل المجتمعي، وزجّت الدين في صراع سعت إلى نزع رحمانيته وفصله عن بعده الإنساني الذي تجسّد في مطلب الحرية والكرامة الإنسانية، وقلبها إلى أداةٍ تخوض بواسطتها حربها الشعواء بين إيمانها المزعوم وكفر من عداها المُدَّعى، ونجحت فعلاً في إخراج أعداد غفيرة من الشعب المطالب بالحرية من الدنيا وإرسالها إلى جهنم، بسكاكينها الدباحة أو بتحريضها التهييجي، وسط صمت معظم “العلماء وأهل الذكر” الذين قد يكون أغراهم بالسكوت خطاب القتلة الأيديولوجي اللغة، المعادي للإنسان والحرية، الذي وعده بثورةٍ بديلةٍ ليست من الأرض، ولا من السماء، ليس للإنسان أي مكان فيها، بل هي ضد حقوقه جميعها، وخصوصاً منها حقه في أن يصير حرّاً.

لن تنجو النخب التي خانت الربيع العربي من بطش من يقتلون شعبهم منذ أكثر من خمسة أعوام. ولا نجاة لها بغير انضمامها، وإن المتأخر، إلى من يشقون درب وطنهم إلى مستقبله الحر ببحر من دمائهم. ولن يحتسب لها وقوفها جانباً، عند حكامٍ، كان معظم الذين قتلوهم ممن توهموا أن نجاتهم تكمن في وقوفهم جانباً، فكان فيه هلاكهم.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى