قبل أشهر كتبت الأديبة غادة السمان مقالاً بعنوان: «التعري الغربي بعين عربية» عبّرت فيه عن استيائها من تفشي ظاهرة التعري، المقصود هو التعري الكامل، في المجتمع الأوروبي.
شهادة السمان كانت مهمة من عدة أوجه، أولها وأهمها خصوصية الكاتبة التي تعتبر في العالم العربي رمزاً من رموز التحرر والجرأة الأدبية والثقافية، للحد الذي جعلها عبر مسيرتها الطويلة تسخر من جميع التابوهات، خاصة المتعلقة منها بالمرأة والجسد، إضافة إلى كونها تعيش في الغرب وبالتحديد في فرنسا المنفتحة منذ ما يزيد عن الثلاثين عاماً.
كل ذلك لم يمنع غادة السمان من الإحساس بالامتعاض والصدمة. هي التي لم تستطع، مع كل انفتاحها وجرأتها، تقبل ذلك التحوّل الغربي الأخير، الذي بات يحوّل التعري لظاهرة ثقافية مكتملة ويربط بينها وبين الحفاظ على البيئة والانسجام مع الطبيعة، لدرجة أن أصحابها يطلقون على أنفسهم لقب الطبيعيين «ناتوريست».
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتحايل فيها الغربيون على اللغة ويبتكرون أسماء براقة لما هو غير مستساغ عقلاً، لكنهم بلا شك قد تفوقوا على أنفسهم هذه المرة حين ربطوا بين التعري وحماية البيئة.
في أواسط عام 2015 نشرت صحيفة «لو باريزيان» مقالاً افتخرت فيه بأن فرنسا أصبحت وجهة «الطبيعيين» العالمية الأولى مع ستة ملايين أوروبي ومليونين من المواطنين الفرنسيين واعتبرت أن هذه الحركة تمثل قمة التجانس مع الطبيعة.
في المعجم الثقافي الفرنسي، ولعل هذا هو الحال في اللغات الأوروبية الأخرى، توجد عدة مصطلحات للتعبير عن حالة التعري هذه. مرة أخرى نقول إننا نعني هنا التعري الكامل وليس مجرد التخفف من الثياب. سوف يخبرك هذا المعجم على سبيل المثال بأن هؤلاء الطبيعيين هم حركة مختلفة عن أتباع الاتجاهات الأخرى المهووسة بعرض الجسد العاري، فالطبيعيون وخلافاً لأولئك لا يفرضون أنفسهم ولا يقحمون أجسادهم العارية على مرمى من أنظار الناس، بل يفضلون الاختلاء واختيار أماكن مخفية لممارسة حب الطبيعة عبر طريقتهم الفريدة.
أما «الفدرالية الدولية للطبيعيين» فتضع على موقعها تعريفها للكلمة قائلة إنه التماهي مع الطبيعة عبر ممارسة التعري الجماعي للتدليل على احترام النفس والآخر والطبيعة.
لا يبدو الأمر جاداً وتبدو هذه المجموعات وكأنها حالة شاذة على الفضاء الأوروبي والفرنسي. قد يكون هذا صحيحاً، فنسبة أولئك الذين لا يجدون حرجاً في ممارسة التعري الكامل هذا لا تزال قليلة نسبياً. لكن المفارقة هي أن تلك المجتمعات ابتعدت منذ أمد عن وضع أحكام أخلاقية مسبقة، فقد ظلت مدارس علم النفس والاجتماع تركز على فكرة أنه لا توجد قيم أو أخلاق صحيحة مطلقة، وأن كل شيء نسبي وكل فعل قابل للتجريب. بمعنى أنه، حتى إذا كان الجميع يرتدي ملابساً فإن هذا لا يعني أن الأصل هو الستر وتغطية الجسد. بهذا المنطق يستطيع حتى أكثر الناس شذوذاً في فكره وعاطفته أن يمارس حريته طالما كان ذلك ضمن الحدود التي لا تؤذي غيره بشكل مباشر.
لم يقتصر الأمر على العربية المتحررة غادة السمان، ولكن بإمكاننا أن نلمس الصدمة ذاتها عند عالم الأنثربولوجيا مارك بورديغوني الذي وضع كتاباً بهذا الاسم «ناتوريست» ناقش فيه هذه الظاهرة، وعبّر فيها عن وجهة نظره التي لا ترى وجاهة في الربط بين حب الطبيعة والرغبة في التعري. الأمر لا يتعلق فقط بالعيون العربية، كما عبّرت السمان، ولكنه متعلق بشكل أكبر بالعيون التي بقيت على فطرتها الإنسانية التي لا يمكنها أن تستسيغ مثل هذا التردي ولو تذرّع أصحابه بترسانة من الفلسفة والعبارات الثقافية، من قبيل التصالح مع الطبيعة أو الاتحاد معها.
تخيّل أن يجتمع مجموعة من الناس من الجنسين على مقربة من نهر أو جبل أو منتجع، ثم يبقون هناك مخيّمين لأيام وهم عراة تماماً حباً في الطبيعة، وابتعاداً عن الضوضاء وعن الحداثة. وكما أي فكرة مهما بدت شاذة فإن القانون يسمح بنشرها والدعوة إليها بحرية، باعتبارها خياراً شخصياً. والغريب أن هذه الدعوة لم تقتصر فقط على البالغين ولكنها تخاطب المراهقين أيضاً باعتبار أنها، على حد تعبير المروجّين، تساعد الناشئة على احترام الجسد والتخلص من العقد الجنسية.
لاحظ تقرير «لو بارزيان» أن جميع الذين تم إجراء مقابلة معهم من الذين يمارسون هذا التعري الجماعي، رفضوا أن يتم تصويرهم، كما آثر معظمهم أن يظهر باسم مستعار ،وقد علقّت الصحيفة على ذلك بكونه يرجع لحساسية الموقف، وعدم الرغبة في أن ينظر إليهم الآخرون نظرة سلبية، خاصة أن منهم من يمتلك وظيفة ووضعاً اجتماعياً مميزاً. هذا يقودنا مرة أخرى لاستنتاجنا الأول وهو أن هذه الحركة التي تسمى باسم الطبيعة زوراً ليست حركة طبيعية وإلا لما خجل أصحابها من الانتساب إليها والدفاع العلني عنها.
المفارقة الأهم التي يصعب تجاهلها هي أن ذلك المجتمع نفسه المفعم بالحرية وتقبل الأنماط المختلفة للحياة مهما بدت شاذة، والذي لا يعترض حتى على فتح متنزهات ومحال تجارية ومطاعم خاصة بهؤلاء المتعرّين، هو نفسه من يلاحق المحجبات ويحظر النقاب، باعتبار أنها أزياء مسيئة للذوق العام ولعلمانية الدولة، بل إن الجماعات الشعبوية التي تكتسب اليوم آلاف الأنصار الجدد لا تخجل من إعلان دعوتها محاربة المظاهر الإسلامية، التي من بينها مطاعم الأكل الحلال ومحال الأزياء العربية. هذا في بلاد النور والحرية نفسها.
إن هذا يقودنا للتساؤل عن وضع العالم العربي، وعما إذا كان بعيداً عن موجة التعري هذه. في كل مرة تطرح فيها هذه الموضوعات يبادر البعض بالإجابة بأننا ما نزال بخير، بفضل القيم والتقاليد ولأن شعوب المنطقة هي في مجملها شعوب متدينة. لكن هذه الإجابة اللطيفة لا تبدو مقنعة على الأقل لمن يتابع التلفزيونات العربية والقنوات التي تقتات على عرض الأجساد والمفاتن. صحيح أننا لم نصل بعد لمرحلة المجاهرة بالتعري الكامل لكن الملاحظ أننا، أتحدث عن الكثير من البلاد العربية، لسنا بعيدين عن ذلك، بل تفصلنا عنه خطوات رمزية.
وكما يخبر تاريخ الغرب المعاصر فإن هذه الحركات «التحررية» نفسها لم تكن سوى وليدة التحولات السياسية والاجتماعية، فحتى قرن واحد أو قرنين على الأكثر لم تكن مثل هذه الأفكار لتجد أرضاً لها في بلاد كان معظم أهلها «محافظون» بمفهوم اليوم، لجهة تقدير العائلة والمحافظة على الشرف. ولكن الثورة على الدين وما حواه من قيم ثم دخول أوروبا عهد الصناعة الذي وضع شروطاً جديدة للحياة في المدن وتقاليد متعارضة بشكل ما مع التقاليد السائدة. كل ذلك ساهم في ذلك التحوّل التدريجي الذي أوصلنا هنا، والذي جعل الغرب في نظر الكثير من دول العالم يمثل قبلة التحرر الجنسي والضياع والشذوذ بأنواعه المختلفة.
المشكلة الحقيقية تكمن في أن الغرب لا يرى في شذوذه شذوذاً بل قيما يجب أن تتبع وتنتشر كقيم عالمية، فهو يظل يدعو في مؤتمراته لأن يتسع مفهوم الأسرة مثلاً حتى يشمل العلاقة المكونة من رجلين أو امرأتين، كما يظل يضغط عبر منظمات دولية مرموقة إلى احترام الاختيارات العاطفية، وهو المفهوم الذي يعبر بشكل مهذب وملتف عن ضرورة احترام الشذوذ الجنسي، حتى يصبح العالم «متحضراً» و»متساوياً» بحسب المفهوم الغربي للحضارة والمساواة.
المصدر: القدس العربي