مقالات

أحمد عبد اللاه – شرق المتوسط و»حزام النار» من فرسان الهيكل إلى فيلق القدس

لم تكن مهمة فرسان الهيكل حراسة «تابوت العهد» أو «الكأس المقدسة»، ولم ينتظموا في كتائب قوية من أجل حماية «السلالة اليسوعية» مثلما نُسجت حولهم من أساطير بعد زوالهم، فتلك أمور من شأن الحكايات الشعبية والخيال الروائي. كان الفرسان يمثلون النخبة القوية والأكثر قدرة قتالية وتنظيمية في جيوش الفرنجة – في سياق الحملات الصليبية.. بدأت مهامها في حماية الحجيج المسيحيين وتأمين الطرقات والمسالك المؤدية إلى الأماكن المقدسة، وتطورت حتى أصبحت تعمل كمؤسسة كبيرة، وتدير شبكة واسعة من المصالح والأملاك في دول أوروبا.

وبعد إخفاق الغرب واقتناعه بأن الشرق قد تمكن نهائياً من تحقيق انتصارات حاسمة، ارتد الأمر على أصحابه فاتفقت الكنيسة وبعض ملوك أوروبا على ضرورة الخلاص من الفرسان، الذين كُتِبَت نهايتهم كـ»مهرطقين» وأُحرق قادتهم بالنار وتم الاستيلاء على كل ما ملكوا.
كان شرق المتوسط، بمدنه المختلفة، يمثل حزاما استراتيجيا مهما للغاية في سياق الحملات المتواترة التي سعت منذ بدايتها للإمساك به واحتلال «الأماكن المقدسة»، فظل يشبه «حزام النار» على جسد المنطقة، وخطا ملتهبا بين القوات الغازية والمدافعة عن الأرض الشديدة الحساسية من حيث أهميتها وقدسيتها.

التاريخ يتكرر بصور مختلفة، وفي كل مرة تُسجل النتائج وفقاً لحالات الشرق. حين يكون متضامناً يبقى عزيزاً، وحين تأكله الفرقة والفتن الداخلية يتم وضعه على الطاولة وتتهاوى على جسده الأزاميل لنحت خرائطه الجديدة، فيتشبث كل جزء فيه بقوى خارجية تمعن فيه استغلالاً و»يمعن» لها إخلاصاً وتبعية.

الآن لم يعد التغني بالتواريخ مقبولاً، بعد أن تمكن حزام النار من «العقد العصبية» للجسد وامتدت حرائقه لتحيط بالجغرافيا العربية من مواقع مختلفة، ولم تعد مظاهر الضعف في الوقت الحاضر تتعلق فقط بالتغول التقليدي لإسرائيل وتوسع أهدافها.. وإنما أيضاً بظهور قوة إقليمية أطلقت فرسانها الجدد تحت ذرائع حماية «أماكن مقدسة» بأسماء جديدة.. من سرداب «الإمام الغائب» ومقامات الأئمة والأولياء ومرقد زينب إلى حماية «الأقليات الطائفية»، على هلال جغرافي عظيم وشديد «التقعّر» من شرق المتوسط إلى العراق والخليج حتى الهضبة اليمنية المطلة على جنوب البحرالأحمر.

وهي ذرائع العصر الحديث في المنطقة العربية التي تُصنع من أجلها جيوش ومليشيات، لا تحتاج إلى أن تقطع مسافات من شمال أوروبا ووسطها وعبور آسيا الوسطى باتجاه الشاطئ الشرقي للمتوسط، بل هي جيوش داخلية تتبع دولة إقليمية مسلمة يتزعمها «ولي فقيه» بعمامة إسلامية سوداء ولحية بيضاء، وثوب شرقي كما كان المجاهدون القدامى يلبسون، ويرفع سبابته مرات عديدة كل يوم في أداء الصلاة وفي الخطابة، وحين يأمر الجيوش بالتحرك ليشارك في قتل المسلمين تحت شعارات مقدسة لا تخلو من الخرافات الفظيعة، في عصر يفترض أنه قد ابتعد عن العصور الوسطى بقرون.

جيوش وأحزاب وطبول ومنابر لا يديرها حراس هيكل سليمان، بل الحرس الثوري الإيراني والنخبة التابعة له، وهي فيلق اتخذ من القدس صفته الاعتبارية وعلامته التسويقية، يقوم بالعمليات الخارجية ويجمع من حوله مليشيات الطوائف.. يُذكِّرون جميعاً بجنود الرب، الذين قطعوا القارات للدفاع عن قدسية الأطماع السياسية. الحرس الثوري بفيلقه مؤسسة حربية لها شبكات مصالح خفية ومتعددة «وصلت موازنتها هذا العام 6.9 مليار دولار»، تُدق حولها طبول الخرافات لتعيد إلى «الذاكرة القومية» تماماً سيرة فرسان الهيكل، مع فارق في الشعائر والزي الرسمي للمحاربين.

منذ سقوط العراق وأفغانستان اتسعت الفضاءات لطموح إيران في المنطقة، لتلعب أدوارا مختلفة بهدف الهيمنة الإقليمية وتقويض النظام العربي. ومن أجل تحقيق أطماعها السياسية تبنت استراتيجية على مسارات متوازية، وتسعى لتحقيقها بأدوات مختلفة ومتداخلة وبعضها باطنية من الصعب إدراكها، خاصة تلك المتعلقة بخلق الذرائع التي تبرر تدخلاتها وحضورها في الميدان، حتى إن كان ذلك يتطلب علاقة وثيقة ببعض المنظمات الإرهابية. فكل شيء يخدم أطماعها السياسية ويدعم استراتيجيتها في المنطقة العربية مباح لها، ولا تتردد في الأخذ به كوسيلة مهما كانت خطورة ذلك على السلم الإقليمي والعالمي.

ومن يقرأ التاريخ جيداً سيجد نماذج مماثلة.. خاصة حول ما عُرف عن علاقة وثيقة بين فرسان الهيكل وتنظيم الحشاشين الفتاك. التاريخ إذن يتكرر بنماذج مختلفة وظواهر متعددة.. ولعل صندوق إيران يحوي الكثير من مذكرات سرية للصراعات القديمة بتجاربها السوداء.
الساحل الشرقي للمتوسط، اليوم، تبدلت أوضاعه وتغيرت أسماء مدن فيه، وأصبح بعض محيطه العربي مثل خرقة بالية تتفكك ويتم ترقيعها بأجزاء من هنا وهناك.. لم يعد شرقياً جدا، فحتى الأرض تتغير ملامحها حين تُسلب الهوية.. وتلال حطين التي بُلِّغت في الأرض «أقسى العمر» تئن أصداء الذكريات من حولها حاملة أنفاس الخيول اللاهثة عند الملتقى، حيث تجَنْدلت أقوى نخب الزاحفين. دمشق تنأى بعيداً وفلسطين استوطنها الأغراب، ومن حولهما وهن لم يُعرف إلا حين ضُربت المسكنة على أمراء المسلمين في زمن المغول.

أحزمة النار بحاجة إلى قدرات كبيرة لإطفائها وتضامن غير ذلك الذي سيمثله اجتماع القمة العربية المقبل.. غير ذلك تماماً.. إذ لا يمكن أن تُسخَّر الوسائل نفسها التي عجزت عن تحقيق أي نجاح في العصر الحديث، ولنقل خلال ستين عاما مضت، من أجل إنقاذ المنطقة العربية من الضعف المتراكم والانهيارات المتلاحقة. ذلك هو تحدي العصر.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى