ارتبط قصر فرساي بمعاهدة إرساء السلام في نهاية الحرب العالمية الأولى وما نتج عنها من تأسيس لعصبة الأمم. اختاره الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون لاستقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدلا من قصر الإيليزيه، تبريرات الاختيار لمكان اللقاء لدى وسائل الإعلام والشخصيات المعنية تمثلت في تاريخ القصر ودلالاته التاريخية وفخامته وجمال حدائقه ومنحوتاته ونافورات الماء وذاكرة ملوك فرنسا وحفلات الصيد وحياة ماري أنطوانيت وإعدامها. كل ذلك كان حاضرا مع الهدف المعلن لافتتاح المعرض المخصص لزيارة القيصر الروسي بطرس الأكبر عام 1717 إلى فرنسا، أي إن الزيارة تأتي بعد 300 عام من عُمر العلاقة بين البلدين.
الرئيس ماكرون على خطى رؤساء فرنسا رغم تباين أنشطتهم في بداية توليهم مقاليد حكم الإيليزيه، اختار رمزا لعظمة فرنسا وقوتها وهو لم يخرج عن تقاليد أحزاب اليسار أو اليمين، بعض الرؤساء كفرانسوا ميتران بثقافته الواسعة اختار زيارة قبور العظماء ليوصل رسالته إلى العالم والفرنسيين، آخرون اتبعوا رؤيتهم وانتمائهم الفكري السياسي في التواجد بين الطبقة الكادحة، وهي أيضا رسالة لما يمكن أن تكون عليه توجهات الفترة الرئاسية داخليا وخارجيا.
قصر فرساي، اختيار رصين للرئيس إيمانويل ماكرون الذي يوصف بسيرته الأخلاقية المتميزة في السياسة ويتطابق مع شعار حملته “إلى الأمام” واختلاف تفسيرها اللفظي بما تعني “قُدُما”، لكن قادة حملته الانتخابية كانوا يؤكدون أنها “إلى الأمام” وهي عبارة بقدر حركتها ونشاطها ودعوتها المباشرة إلى عدم التوقف والكسل، إلا أنها أيضا حادة بما يتلاءم مع مقولتنا العربية إنه لا يخاف في الحق لومة لائم. فترته قصيرة في الرئاسة لكنها حاسمة في قول ما يراه دون تردد للإفصاح عن موقفه تجاه الأفراد أو الإعلام أو القضايا التي تشغل فرنسا والأحداث المؤثرة في السياسة الدولية.
فرنسا كانت تُعرف ببلاد الشكل أما روسيا فهي بلاد العاطفة. إطار ربما يصلح لغاية عقود سابقة أو قرن من الآن، فالحروب والنزاعات وما بينهما من سياسات ومصالح استراتيجية شوهت وجه العالم ومهابة قصر مثل قصر فرساي. فالموقف الروسي في مجلس الأمن وتحديدا تجاه المشروع الفرنسي باستخدام الفيتو ضد قرار يتعلق بإيقاف الإبادات في حلب السورية أكتوبر الماضي أدى إلى فتور في العلاقات ألغى زيارة بوتين لافتتاح المركز الأرثوذكسي الروسي في باريس.
بوتين في باريس، عنوان بارز على صندوق من الأسئلة، هل هي زيارة بروتوكولية كانت مؤجلة مؤقتا؟ هل هي زيارة عاجلة وملحة تشير إليهـا فتـرة الرئيس ماكرون في منصبه؟ الرئيس الروسي أول رئيس يزور فرنسا بعد انتخاب ماكرون. الدبلوماسية أشارت إلى أنها زيارة تعارف بين الرئيسين تضمنت لقاءا خاصا ثم لقاءا بحضور الوفدين، وبعدهما مؤتمر صحافي، الزيارة لعدة ساعات فقط تخللها افتتاح المعرض الفني.
منذ 5 أعوام لم يلتق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس فرنسي وتتم الزيارة بعد تدهور لا صلة له بالقضية السورية، إنما بإلغاء فرنسا ومن جانبها، بعد ضغوط من الاتحاد الأوروبي وأميركا، صفقة بيع حاملتي طائرات مروحية سميت بصفقة الميسترال عام 2010؛ لكن الزيارة في مضمونها الخاص بلقاء الرئيس ماكرون بعد الانتخابات ودون تأخير تعود في أحد أسبابها إلى القرصنة الإلكترونية التي تعرضت لها حركة ماكرون “إلى الأمام” وشملت الوثائق والعقود والرسائل، وتوجهت أصابع الاتهام إلى جهات روسية بما يعيد إلى الأذهان اتهامات الحاضر القريب في الانتخابات الأميركية وما يجري في الإعلام حتى الآن من مراجعات مقصودة لعلاقة أفراد من إدارة دونالد ترامب بالقيادة الروسية وتلميحات إلى هجمات إلكترونية لصالح المرشح الجمهوري.
هي أسئلة لا بد وأن ترسي على حقائق في توقيت ما لتزول الأوهام أو تؤكدها ولماذا روسيا تحديدا وفي مثل هذه الظروف المعقدة والشائكة؟ ليس هذا فحسب إنما استقبال الرئيس بوتين في موسكو لزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان وقبل أيام من الانتخابات عزز الأسئلة عن الدور الروسي في الميول نحو قوى معينة في معادلة انتخابات داخلية لدولة أخرى. الرئيس الأميركي دونالد ترامب رغم استقبال مارين لوبان من قبل إدارته، لم يستقبلها شخصيا لاعتبارات سياسية دقيقة في وقت حرج اقتربت فيه الانتخابات الفرنسية من موعدها.
الرئيس فلاديمير بوتين تحت كل الاعتبارات التقى الرئيس الفرنسي الجديد المثير للجدل والإعجاب الذي اختط له ولحركته نهجا مبتكرا من دون قاعدة حزبية تقليدية أو حتى جماهيرية وبمساعدة مجموعة نشطاء فاعلين من الشباب وبجهد استغرق عاما فقط. زيارة بوتين هل ندعوها حفلة تعارف سريعة، تواصلت فيها روسيا مع دولة مهمة في الاتحاد الأوروبي، سبقها نشاط ملحوظ للرئيس ماكرون بمشاركته في قمة حلف شمال الأطلسي وبحضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب ثم قمة دول مجموعة السبع أو قمة الدول الصناعية الكبرى، والتي عقدت في جزيرة صقلية وبتواجد مندوب من الاتحاد الأوروبي، ثم اتصلت زيارة بوتين لتكمل جوهر أسبابها وتوقيتها وذلك واضح بأصداء المؤتمر الصحافي في قصر فرساي.
ملفان أساسيان في اللقاء، أولهما الملف السوري وما تسبب فيه من توتر وشرخ في العلاقات الدولية على مستوى العالم وتشظ إلى الإرهاب وسبل مكافحته وتداعيات تشخيص الإرهاب والمنظمات الإرهابية واستخدام الإرهاب كأوراق ضغط لحكام وسياسات. الحملة الانتخابية لماكرون طرحت محاكمة الحاكم السوري لجرائمه وإباداته أمام محكمة الجنايات الدولية.
بعد توليه الرئاسة مازال ماكرون يعتبر حاكم سوريا مجرم حرب إنما الأولويات للقضاء على الإرهاب وهو إجماع دولي، وتقييمه للموقف الروسي توجزه فقرة الإبقاء على الحاكم السوري بذريعة الحرب على داعش وهي مبرر للقضاء على فصائل المعارضة السورية التي توصف بالمعتدلة وإخماد الثورة السورية. الحاكم السوري في ميزان الرئيس ماكرون عقدة التراجيديا السورية لذلك هو يتحدث في البحث عن حل لمصيره، أي مصير الحاكم السوري، لأن ذلك يعني حل مشكلة الشعب السوري، ولا يرى في اجتماعات أستانة موجبا مع وجود قرارات جنيف 1 التي يطالب بتفعيلها في محادثات ليست شكلية كما هي رغبة روسيا منها.
الملف الثاني، يتعلق بأوكرانيا وتطبيق مقررات اتفاقية مينسك التي تقضي بسيطرة أوكرانيا على حـدودها وبما يتفـق مع ما قرره الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند ومستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل، وصلة ذلك بالعقوبات المفروضة على روسيا وما نتج عن ضمّ شبه جزيرة القرم بالكامل إلى روسيا.
روسيا بعد أزمة أوكرانيا وبدلا من حلها بالتفاهمات مع دول الاتحاد الأوروبي وأميركا، اتبعت سياسة الضغط في مناطق أخرى من العالم لتخفيف الضغط على مركز أعصابها الداخلية وحدودها الإقليمية مع أوروبا، لذا تبنت الإبقاء على الحاكم السوري وأصبح محور اهتمامها الذي أدى إلى تفاقم عزلتها أوروبيا وزاد من قوة الإدانة بما تتعرض إليه من هجوم معلن وسافر بسبب مواقفها المتعنتة في مجلس الأمن من مقترح مشاريع قرارات للدول الأعضاء وبعض تلك القرارات حول قضايا إغاثة مساعدات إنسانية فقط.
إيمانويل ماكرون وضع الخط الأحمر الفاصل في سياسته تجاه الوضع في سوريا في حالة استخدام السلاح الكيميائي، وذلك كما نعتقد لا يعيد سيناريو الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، بقدر ما هو مضاعفة لتكثيف المشاركة الفرنسية لرد الفعل الأميركي إذا ما ارتكب النظام الحاكم في سوريا حماقة أخرى. هل هناك احتمال لحدوث ضربة كيميائية؟ نعم تحدث بطريقة أو بأخرى والمفاجآت واردة أو بالأحرى حقل التجارب حاضر وجاهز، من يبالي طالما الحلول تصطدم بالفيتو في مجلس الأمن، والقتلة يتم مكافأتهم بالتهاون من قبل المجتمع الدولي وحجتهم مخاوف انفلات شامل في أمن المنطقة والعالم.
زيارة الرئيس الروسي لفرنسا محاولة لفتح ثغرة في جدار عزلة روسيا ومحورها الذي يضم إيران وسوريا، لكننا لا نرى وجود استقطاب دولي لمحور روسي مقابل محور أميركي تمثله فترة أداء إدارة الرئيس ترامب، الزيارة أيضا لتخفيف أجواء التوتر، وخطوة بكبرياء دولة كبرى للمصالحة مع العالم وترك الفرصة للرياضة لتلعب دورا بارزا فيها؛ موسكو تتطلع إلى بداية مختلفة لصفارة حكم دولي على ساحتها ولتسجل أهدافا لصالحها في الاقتصاد والسياسة والسياحة؛ حتى صيف 2018 موسكو أيضا تتغير.
المصدر : العرب