ستكون مهمة السيد مقتدى صعبة إذا ما أراد أن يجري تسوية على الشعارات التي خاض الانتخابات على أساسها. فالرجل قاد طوال السنوات الأربع الأخيرة مواجهات «مدنية» مع السلطة رفع خلالها شعارات تمس صلب دورها وخياراتها الرئيسة. الأمر لا يتعلق بمستويات الفساد غير المسبوق في هذا البلد فحسب، إنما أيضاً خروج صاحب «الحوزة الناطقة» عن الإجماعات الشيعية العراقية. تحفظ على الدور الإيراني في بغداد، وانتقد طهران مباشرة وغير مرة. طالب الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي. زار الرياض وأبو ظبي في ذروة صدامهما مع طهران في اليمن.
فاز الصدر في الانتخابات العراقية بأكبر لائحة، وتحالف مع الحزب الشيوعي العراقي في سابقة لافتة ومؤشرة إلى خياراته المستجدة. واليوم أمام السيد استحقاقات لم يسبق أن واجهها. فهو المرشح لصناعة المنصب الأول في العراق، ومن المرجح أن يكون مرشحه من خارج لوائحه وتكتله، ذاك أن للمنصب وجوهاً في العراق تمليها توازنات لم يسبق أن كانت وجوه التيار الصدري جزءاً منها.
لكن الشروط الصدرية من المفترض أن تحاصر من يسميه التيار رئيساً، وحتى الآن يبدو أن العبادي أوفر حظاً في هذا السياق، لكنه عبادي آخر غير ذلك الذي حكم العراق في السنوات الأربع الأخيرة. فمن المفترض أن يكون أقل إيرانية من نفسه وأقل دعووية (نسبة لحزب الدعوة)، وعليه أن يقبل بوزير شيوعي أو أكثر، وأن يجري عملية ترميم للعلاقة مع الأكراد (أهدى مقتدى مسعود البارزاني مقعداً نيابياً بأن رشح مقرباً منه على لائحته في إشارة قوية ودالة على خياراته الكردية)، ناهيك بالقوى السنية التي خلف فوز الصدر ارتياحاً في أوساطها. وبهذا المعنى، نحن نتحدث عن حيدر عبادي آخر.
مقتدى الصدر لم يخسر يوماً الانتخابات منذ أن بدأ العراق بهذا الطقس القاسي في 2005. لم تتراجع كتلته في أي دورة عن الدورة التي سبقتها. كل القوى العراقية تفاوتت نتائجها تقدماً أو تراجعاً بين دورة انتخابات وأخرى باستثنائه. قاعدة زعامته أثبت وأرسخ من أي قاعدة زعامة أخرى. وهذه المرة تفوق السيد على نفسه. فاز بأكبر لائحة انتخابية، وخلافاً لرأي شائع يقول بانعدام خبرته وعدم براغماتيته، كشف عن قدرة لا تملكها أي قوة دينية عراقية على التحرك وعلى شبك تحالفات عابرة لثوابت رجال الدين. فالتحالف مع الحزب الشيوعي العراقي فيه تجاوز لعلاقات تاريخية مريرة بين رجال الدين الشيعة وبين هذا الحزب، ولآل الصدر تحديداً قصصهم الخاصة مع هذا الحزب، ذاك أن صعود حزب الدعوة في الستينات جرى في ظل التنافس الحاد بين قواعد الحزب الشيوعي العراقي في البيئة الشيعية ونفوذ الحوزة والمرجعية النجفية فيها، وقاد زعيم حزب الدعوة ومؤسسه السيد محمد باقر الصدر، عم مقتدى، هذا التنافس. ومقتدى اليوم يتحالف مع الشيوعيين متجاوزاً هذه الحقيقة. وهو إذ ساعد الشيوعيين على وصول 13 مرشحاً منهم إلى البرلمان، ساعدوه هم بدورهم على تظهير موقع «مدني» لتكتله، وعلى التخفف من خيارات الأحزاب الدينية. وأن يجري رجل دين هذه المقاصة غير آبه بحسابات الموقع والتاريخ، فإن ذلك يؤشر إلى مقدار الثقة بقواعده من جهة، لكنه من جهة أخرى يؤشر إلى قرار بالخروج من عباءة خيارات التشيع العراقي كما حددته طهران.
مقتدى ليس مرجع جماعته، فالرجل لم يبلغ بعد كفاءة تخوله التصدي لهذا الموقع الديني، لكنه تخفف على ما يبدو من ثقل الحاجة إلى المرجعية. في بداية شبابه شعر بأن الصدرية تحتاج مرجعاً. سقط نظام البعث ووجد الرجل نفسه في العراء، بلا مرجع. والده كان قُتل، والنجف مرجعية منافسة. ربط موقتاً مع كاظم الحائري، المرجع المقيم في إيران والقريب من نظامها. فمرجعية الحائري خارج الحدود ولا ترتب عليه أثقالاً عراقية. لكن مع الوقت شعر بأنها قناة لنفوذ طهران داخل قواعده، فراح يبتعد منها. وها هو اليوم أقرب إلى النجف منها. استعاض عن البعد السياسي لموقع المرجع بأن أعلن نفسه مرجعاً سياسياً لمريديه، فيما ترك للأخيرين حرية اختيار مرجعهم الديني، وفي هذا مقدار غير مسبوق من البراغماتية.
مقتدى الصدر ممثل البعد الداخلي (الوطني إذا جاز التعبير) للتشيع في العراق. ولهذا البعد موقع مختلف في الحساسية الشيعية بعلاقتها مع إيران. الرجل ليس خصماً لطهران على ما يرطن كثيرون من خصومها، إلا أنه صادر عن خبرة مختلفة. خبرة الداخل غير الملتبسة بما أملته سنوات الشتات على هويات القوى الشيعية الأخرى. والأرجح أنها الخبرة التي استمد منها الرجل ملكة التفوق في العلاقة مع قواعده، وهي أيضاً ما جعله يشعر بأن الشيوعيين بوصفهم جزءاً من ماضٍ مشترك، يمكن أن يكونوا شركاء في مزاج الداخل وفي حساسياته. فما بقي من الحزب الشيوعي في العراق ليس أفكاره، تلك التي قارعها الصدر الأول (محمد باقر) بكتابيه «فلسفتنا» و «اقتصادنا»، انما ما بقي منه روابط اجتماعية ومناطقية وتاريخية للصدرية علاقة أكيدة فيها.
الذكاء بصفته فطرة وبصفته خبرة غير متبلورة في وصفة دينية جاهزة، هو ما يمكن أن يكون وراء الكثير من خيارات مقتدى الصدر وخيارات من يحيطون به. وفي كل مرة تجرى فيها انتخابات في العراق تنبعث الصدرية بصفتها صوت الداخل العراقي الذي لم يهضم تشيعاً قادماً من خبرة أخرى. لا يقوى هذا الصوت على مواجهة هذا الخصم الافتراضي، ولا يرغب أصلاً في ذلك، لكنه هذه المرة كان صوتاً أعلى من المتوقع، وهو على رغم ذلك لن يُعلن المواجهة، إلا أنه سيسعى إلى أن يكون شريكاً. والسؤال هو: هل ستعني هذه الشراكة تثبيتاً لموقع لا يرغب في الاستتباع. لدى مقتدى رغبة في ذلك من دون شك، لكن المهمة صعبة جداً، وأهمية العراق بالنسبة لطهران تفوق لبنان وسورية، وهذا ما يفتحه على احتمالات كثيرة، وما يجعل مهمة إجهاض نتائج الانتخابات أولوية لدى الجنرال قاسم سليماني.
المصدر : الحياة