لا يحتاج فريد الأطرش إلى شهادة مني للقول إنه موسيقار كبير، فهو كذلك بلا أي نقاش، وأظن أن إلياس سحاب محقٌّ كثيراً في اعتبار الفنان الشهير من أبرز علامات التجديد في الموسيقى العربية المعاصرة، وأنه “رسول النغم المشرقي إلى النغم المصري”.
ومع تسليمي بذلك كله، إلا أنه من حقي أَلّا أحب أغنياتٍ كثيرة للرجل، وأن أعبّر عن قلة حماستي لصوته، مع احترامي إجادتَه المطمطة والتهدّج إياهما، واستثماره الطبقات العليا في حنجرته. وتعطيني المادة 19 في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الحق في التعبير عن رأيي في هذا الشأن، وتجيز لكل الناس ذلك بشأن الشخصيات العامة، وفريد الأطرش منهم، وعريض الشهرة، وباقٍ في موقعه نجماً عالياً في الفن العربي، فلم يكن خبّازاً في الفجيرة، ولا سائق حافلة في أم درمان، ولا صاحب بقالة في مكناس، حتى يُحسب كلامي، النافر هنا، تعريضاً بشخصه، رحمه الله. وليس من قبيل ضربٍ على حافرٍ ومسمارٍ، أقول، في الوقت نفسه، إنني شغوف بأوبريتاتٍ بديعة للأطرش، وبضع أغنيات له، أجدها من عيون الغناء العربي، ولا سيما من أغنياته في شبابه، وإنْ رمانا، سامحه الله، في الأثناء، بأغنية (عدت يا يوم مولدي، 1962)، والتي يجوز نعتها، قصيدةً وأغنية، بأنها كآبة عربية خالصة من منجزات كامل الشناوي، رحمه الله هو الآخر. أما (أضنيتني بالهجر، 1967)، فلو كنتُ جذرياً، لاتخذت تجاه فريد الأطرش، بسببها وحدها، موقفاً استراتيجياً مبرماً، قد لا أسحبه، بالضرورة، على كاتبها، بشارة الخوري.
تكتمل، اليوم، أربعون عاماً على وفاة فريد الأطرش في مستشفى بيروتي. وعندما تطالع سيرته، منذ ارتحاله من سورية إلى مصر في الثلاثينيات، وحتى المقطع اللبناني الأخير في حياته، سينتباك إعجابٌ كثيرٌ به، فقد كان دؤوباً ونشطاً في التلحين والغناء. كان شغّيلاً، قاوم ظروف حياةٍ صعبة، أَول مقامه في مصر، مع شقيقته أسمهان التي تركت وفاتها المبكرة لديه أسىً ظاهراً، ثم زاوج، لاحقاً، بين حب الحياة والتمتع فيها والإنفاق واللهو وبين اجتهاده البيّن في الموسيقى والغناء. ومن ذلك أن له 32 فيلما، وكان هو من يختار مخرجيها، وهي أفلامٌ غالباً ما كانت تُصنّع، لتناسب أغنياته فيها، وأغنيات شادية وصباح في بعضها أيضاً. أما إذا شئنا الحديث عن أدائه ممثلاً في تلك الأفلام، فالأنسب أن يُقال إن الترحم على الموتى أحسن، فيا لهول تمثيله، كم كان بائساً، لا سيما عندما تذهب الكاميرا إلى عينيه الساهمتين أحياناً، أو إلى وقفته عند شباك، أو عندما تحاول الكاميرا، عبثاً، أن تقع على دواخل فريد الأطرش في أثناء تفجعه وأساه، حزيناً، محبّاً، وذلك كله لا ينتهي إلا مع القفلة السعيدة إياها، عندما يعانق فريد شادية بين آثار الأقصر، مثلاً، حبيبيْن بعد خصام، في فيلم (انت حبيبي، يوسف شاهين، 1957).
وحتى لا يُظن أن اكتمال أربعين عاماً على وفاة صاحبنا، اليوم، مناسبةٌ، هنا، للنهش فيه ممثلاً، يلزم التذكير بأن أوبريتات فريد الأطرش، واستعراضاته الغنائية، وأغنياته ذات المواويل الشعبية، وأعني في أفلامه، تبقى بهيجة، ومستواها فريدٌ حقاً، ولا أَزيد في الطنبور وتراً، في زعمي هنا، أن ثنائيات فريد مع سامية جمال، برقصاتها خفيفة الظل، ومرحها العذب، تبقى من أجمل منجزات السينما المصرية. أما (بساط الريح)، الأوبريت الباقي في الذاكرة الفنية، والثقافية العربية، بدقائقه الثماني، في فيلم (آخر كذبة، 1950)، فإبداعٌ مكين لفريد الأطرش ملحناً ومغنياً، ولبيرم التونسي شاعراً، ولأبو السعود الإبياري مخرجاً. وأظنني، في هذا التقريظ الموجز للرجل، أُصبحُ موضوعياً، ولطالما نُوصَى، نحن كتاب الجرائد، بالموضوعية. ولمزيدٍ منها، أدعو، في ذكرى فريد الأطرش اليوم، إلى سماع (يا عواذل فلفلوا)، مثلاً.
العربي الجديد – وطن اف ام