من استغرب انضمام الساروت أحد رموز الثورة السورية لـ»تنظيم الدولة» هو ببساطة لم يستوعب بعد متغيرات المرحلة الحالية في النزاع مع النظام، ولا يريد إدراك سنن الصراعات في هذه المنطقة.
لا يمكن لمجموعات مسلحة متفرقة متناحرة في مناطق المعارضة مشروعها يعتمد على عدد من القرى أو أجزاء من محافظة، ان تواجه نظاما اقليميا طائفيا منضبط القيادة، ويملك رؤية واضحة لمشروعه ولهوية أنصاره من طهران حتى بغداد فدمشق فبيروت وصولا نحو صنعاء. كذلك فإن المنضوين في «تنظيم الدولة» من المجموعات السورية والعراقية، يرون أن تشكيل حلف سني مقاتل محدد الهوية وممتد من العراق حتى سوريا هو فقط ما سيمكنهم من مواجهة حلف «العدو المشترك»، حلف يلغي حدودا أسهمت في الاستفراد بثوار سوريا السنة، تماما كما فعل النظام الذي يواجهـــهم بجبـــهة كسرت حدود ايران لتصل لبنان، هذه الرؤية التي بنى عليها «تنظــــيم الدولة» مشروعه بتحالف سنة العراق وسوريا، هو ما اخفقت به بقية المجموعات الاسلامية والثورية العراقية والسورية، التي بالكاد تستطيع توحيد نفسها في اطار محافظة او اثنتين.
لذلك تحول «تنظيم الدولة» اليوم لما يشبه تحالفا لمجموعات مسلحة سنية محلية، ممتدة من قرى شرق العراق في بعقوبة الى غرب سوريا في ريف حلب.. فلا يمكن لتنظيم أن يحكم السيطرة على هذه المساحة الهائلة جغرافيا من دون تحالفات محلية في كل قرية ومن كل عشيرة، وهذا بالفعل ما نراه في القيادات المحلية لتنظيم الدولة. وفي سوريا مثلا «تنظــــيم الدولــــة» في دير الزور والرقة مكون من عشائر تحالفت مع التنظيم وقاتلت معه عشائر تحالفت مع التنظيمات الاخرى كـ»النصرة» التنظيم الشقيق للدولة.
وفي ريف حلب انضوى الكثير من ابناء القرى في التنظيم وباتوا قيادات فاعلة عسكريا وحتى اعلاميا، أما القلمون فاكبر فصائل الجيش الحر اعلنت مبايعة تنظيم الدولة قبل اسابيع. وفي حمص عاصمة الثورة فان احد اكبر فصائلها «الفاروق الاسلامي» بايع تنظيم الدولة بمعظم كتائبه، تماما كما فعل الساروت وكتيبته، ومن قبلهم عشيرة النعيمي التي ينتمي لها الساروت، التي يقاتل عدد كبير من ابنائها في تنظيم الدولة بريف حمص.
وكما ان طبيعة بناء التنظيمات تقتضي الاعتماد على العصب العشائرية، فان «تنظيم الدولة» يضم عددا كبيرا من ابناء العشائر من ريف حمص وحماة وصولا لعشائر الرقة والحسكة ودير الزور وجرابلس ومنبج بريف حلب، ويدرك التنظيم مدى اهمية الاعتماد على عصبة العشائر، خاصة البدوية منها، كالنعيمات عشيرة الساروت، التي يقاتل ابناؤها بشراسة وغلظة قد لا تتوفر لابناء المدن والحواضر كحلب، التي يميل ابناؤها كأي مدينة تجارية للمسايسة اكثر من ابناء الريف والعشائر.
لذلك نجد «تنظيم الدولة» كثيرا ما ينتصر بابناء العشائر وكثيرا ما يهزم منهم! كما يحصل اليوم في بعض مناطق الانبار كالرمادي وحــــديثة، وكما حصل سابقا عندما واجه اكبر تحد من قبل عشائر الشعيطات وقبلهم الشحيل، ولم يتمكن من الانتصار عليهم الا بدعم عشائر قوية من المنطقة نفسها، بل ومن العشيرة نفسها، كما حصل مع عامر الرفدان قائد تنظيم الدولة في الهجوم على «النصرة» وعشائر الشحيل، وهو نفسه ابن الشحيل وابن النصرة سابقا.
للحرب رجالها.. وهم قد لا يصلحون للحكم.. فبذل النفس والجلد والغلظة هو ما يستلزم المحاربين، خاصة في صراع دموي كالذي يشهده العراق وسوريا.
كما ان رفض «تنظيم الدولة» وشقيقه المتمرد «جبهة النصرة» لأي علاقة او تمويل خارجي من دول عربية، حتى إن أيدت الثورة السورية، بدا اليوم مقنعا للكثيرين من ثوار سوريا حتى المعتدلين منهم، خصوصا بعد ان قامت بعض هذه الدول بالانضمام لحلف دولي لمحاربة إرهاب السنة وتركت إرهاب خصومهم الشيعة والعلويين يحظى برعاية انظمة طهران ودمشق وبغداد.
وفي سوريا لم يمكن الدعم الاقليمي الهائل لفصائل الجيش الحر وبعض الفصائل الاسلامية السلفية المعتدلة ماليا وتسليحيا، وإن لم يشتمل على سلاح نوعي لم يمكنها للآن من تحقيق كيان متمــــاسك ينجـــح في مواجهة النظام المسيطر على كل مراكز المحافظات عدا الرقة، وفي المقابل تمكنت «القاعـــدة» بنسخـــتيها «النصرة» و»تنظيم الدولة» من تشكيل أقوى الكيانات المسلحة الفاعلة ضد النظام، رغم ان «القاعدة» لم تتلق اي تمويل او دعم من اي دولة، واقتصر دعمها على بعض مناصريها الافراد والملاحقين هم أيضا تحت تهم تمويل الإرهاب، واعتمد «تنظيم الدولة» و»النصرة» بشكل اساسي على تمويل ذاتي من سيطرتهم على آبار النفط والمؤسسات الانتاجية في سوريا والعراق.
وبعيدا عن العقلية الرومانسية في التعاطي مع الثورات.. فإن النزاع الأهلي في سوريا اظهر توحشا هائلا من قبل النظام وحلفه الايراني، فكان أن افرز السنة في سوريا توحشا مضادا في المقابل.. وهذا من سنن الصراعات الاهلية، خاصة بعد فشل كل الانظمة العربية الرسمية السنية في حمايتهم من الابادة، وبدت عاجزة الا عن محاربة «دواعش» السنة على عكس ايران ونظامها الاقليمي الذي يدعم «دواعشه»، بل انه يمنع المساس بأي من ميليشياته الطائفية في العراق وسوريا ولبنان واليمن ويرفض حتى وصفهم بالارهاب.
ورغم ذلك فان توحش تنظيمات السنة المتطرفة يبدو اقل كثيرا مقارنة بهمجية ميليشيات نظامي بغداد ودمشق، وحتى في الغابة لا يمكن مساواة الوحش الصغير بالوحوش الكبيرة.
ادبيات وشاعرية بعــــض انصـــار الثـــورة الرومانسية الهلامية لا تنسجم مع طــــبول الحروب الطائفية والاهلية، التي تحبر كل طرف على تحديد هويته و»عصبته» اذا اراد البقاء قبل حتى ان يفكر بالصمود ومن ثم الانتصار.
غير ذلك فان الحديث المزخم بشعارات انشائية قد تبدو وطنية، ولكن لا علاقة لها بجوهر النزاع، غالبا ما يؤدي بصاحبه الى الاحباط ليسلك طريق السويد او المانيا حيث يبدأ بالتعرف على الوطن الجديد.
وبينما يأتي بعض انصار «تنظيم الدولة» من غير السوريين والعراقيين من السويد والمانيا ليموتوا في ارض الخلافة التي يؤمنون بها.. فانهم يبدون ممتلئين عقائديا بما يعتبرونه مقدسا (سواء كانوا على حق او باطل او مغسولي الدماغ )، ورغم انهم لا يشكلون سوى نسبة العشرة في المئة من مجموع المنضوين في «تنظيم الدولة» من سنة العراق وسوريا وآخرهم الساروت، الا انهم يذكرونا كيف تحولت الاوطان الى مجرد اسماء جغرافيا في حرب لا صوت يعلو فيها فوق صوت الطائفة.
القدس العربي – وطن اف ام