لم يواجه اعتناق المسلمين لـ»الثقافة العصرية» و»العلوم الكونية»، بعبارة عبد الحميد بن باديس، بمقاومات خاصة في مطالع حداثتهم في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ولنحو قرن بعده. اقترنت تلك المعارف والعلوم بالترقي الاجتماعي، بفرص أفضل للعيش، وبظهور أدوار اجتماعية جديدة للرجال، ثم للنساء، على نطاق واسع. في الإدارة والجيش، وفي التعليم، وفي المؤسسات الاقتصادية، بدا الأفق جاذبا لعدد متزايد من السكان.
لم يكن الترقي دخلا أعلى لأفراد، بل حياة أفضل ودورا اجتماعيا فاعلا في مجتمع يترقى في عمومه. بعد الاستقلال حل مفهوم التقدم محل الترقي. وهو يحيل إلى تحسن مقدرات عموم السكان و»عدالة اجتماعية»، وتحرر اجتماعي وثقافي، وتوافق مع اتجاه التاريخ المفترض.
كان التعليم الديني يوفر أعمالا وأدوارا لعدد محدود، وبدا أنه هو ذاته محتاج لنفضة تصلحه.
حد من هذا الانجذاب المتسع شيئان في الأزمنة الباكرة: اقترانه بأوضاع امتيازية لمنحدرين من مجموعات غير إسلامة بدت، من جهتها، أيسر تماهيا بالتنظيمات والأوضاع الجديدة، ثم تصاعد سيطرة قوى غربية على المجتمعات الإسلامية، وما يثيره ذلك من ردود فعل نكوصية، وما يعطيه من صدى لمواقف وتوجهات محافظة للأجهزة الدينية.
مع ذلك ظلت عملية الترقي متصاعدة، وفي ظل الاستعمار ذاته اتسعت الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في بلدان مثل مصر والعراق ولبنان وسوريا وتونس والمغرب، وحتى الجزائر. ظلت أكثرية السكان خارج العملية تقريبا، لكن هذا لأن مفعول الاستعمار ذاته متناقض. فهو من جهة زج مجتمعاتنا في الحداثة الغربية، لكنه من جهة أخرى كان معنيا بالسيطرة والتحكم من فوق، وليس بحال بتحرر العامة ودخولهم الحياة الوطنية.
لكن التجربة كانت كافية لإظهار أن ما يحرك المجتمعات، مجتمعاتنا مثل غيرها، هو حياة أحسن في هذا العالم، أو ما يفضل عبد الله العروي تسميته بالمنفعة (في مقابل المبدأ الديني أو الدنيوي). ولم تستند مقاومة المستعمرين الغربيين في أي من البلدان العربية إلى أسس دينية محض، أو حتى غالبة. كان الإسلام جزءا مهما من الحركات الوطنية فيها، وليس في موقع مهيمن في أي منها في القرن العشرين.
وجرى تحديث اللغة العربية في مطالع حداثتنا، وأخذت بالظهور أنواع أدبية جديدة (رواية، قصة، مسرح)، وأنتج عرب ومسلمون وفق قواعد «الثقافة العصرية» و»العلوم الكونية»، ودخلت تيارات فكرية وسياسية حديثة مثل القومية والليبرالية والاشتراكية.
بعد الاستقلال توسع التعليم والتنظيمات الحديثة على يد الدولة الوطنية الحديثة. أقبل الناس على تعليم أولادهم لارتباط التعليم بفرص اجتماعية أفضل. بدا المستقبل واعدا أمام ثقافة العصر والعلوم الكونية، والمقبلين عليهما. كان في نسبة الثقافة والعلوم إلى «العصر» و»الكون» ما يضفي عليهما صفة إنسانية عامة، ويقوض من المبدأ شرعية التحفظ عنهما.
وحتى سبعينيات القرن العشرين، كان الميل العام هو انتشار التحديث في المؤسسات السياسية والاجتماعية، وفي الأفكار، وفي القوانين، وفي التعليم، وفي حضور النساء في الحقل العام. وحتى ستينيات القرن العشرين كانت بلدان مثل سوريا ولبنان ومصر في طليعة بلدان القارات الثلاث، اقتصاديا واجتماعيا وتعليميا.
صحيح أنه ظهرت مقاومات دينية ضد الحداثة الفكرية، في مصر على نحو خاص، وتأثر بها علي عبد الرازق إثر صدور كتابه «الإسلام وأنظمة الحكم»، وطه حسين إثر كتابه عن الشعر الجاهلي. الأول انزوى، والثاني أخذ يُدوِّر الزوايا، إلا أن الاعتراض عليها انضبط بمنطق الدولة وحاكميتها، وعاش الرجلان بأمان حتى موتهما، وكان طه حسين بينهما معززا مكرما، عميدا.
كان هناك تيار محافظ على الدوام، ولم تكن تسره التحولات الاجتماعية والثقافية الجارية، لكنه بدا فاقدا بالكلية لزمام المبادرة، ولا يملك شيئا يدفع به عن نفسه نفولا وهامشية متناميين. ولم يكن هنا من يجادل فيما كتبه خالد العظم في مذكراته عام 1964 من أن حركة سفور النساء متسعة، وأنه خلال بعض الوقت قد يزول الحجاب تماما.
ما الذي جرى إذن، في وقت ما من سبعينيات القرن العشرين، حتى انقلب مسار قرن، وعاد الحجاب ومكملاته الرمزية والسلوكية إلى الانتشار والتوسع، وظهر الإسلاميون قوة تمرد اجتماعي عنيفة؟ ما الذي يجعلهم قوة اجتماعية نافذة، يؤيد طروحاتهم متعلمون وناشطون سياسيون وقطاع من السكان؟ وكيف تحول الاعتراض الديني من انضباط بحاكمية الدولة قبل نحو تسعة عقود إلى خروج على الدولة، ثم إلى خروج على المجتمع ذاته، ومحاولة لتأسيس حاكمية جديدة قائمة على الدين؟
هناك نظرية شائعة، بقدر ما هي ضحلة في رأيي، تفسر الأمر بذهنية إسلامية أو بتكوين ما لدين المسلمين، مع افتراض أن المسلمين متكونون أساسا أو كليا بالإسلام. هذه النظرية تتبنى تماما تفسير الإسلاميين أنفسهم للأمر: صحوة إسلامية، وعودة إلى الإسلام الصحيح، وتحكيم للإسلام في حركات المسلم كلها وسكناته، لكن مع حكم سلبي على الظاهرة طبعا.
بدل أن تفسر الواقع، هذه النظرية ذاتها بحاجة إلى تفسير. ولا أرى إلا أن تفسيرها، وتفسير التفاصلية الإسلامية المعاصرة التي بلغت أعلى مراحلها في «داعش» يحيلان إلى المنبع ذاته (مفهوم التفاصل صاغه سيد قطب، وهو مرتبط بتشخيص حال «العصر» و»الكون» كجاهلية، وقد تطور المفهوم إلى «التكفير والهجرة» بعد إعدام قطب بأقل من عقد واحد).
ظهر فكر القطيعة والتفاصل الإسلامي بفعل انقطاع عملية الترقي الاجتماعي المرتبطة بـ»العلوم الكونية» و»الثقافة العصرية». ومنذ سبعينيات القرن العشرين، وبتزامن مؤكد مع توقف عمليات التغير السياسي والتحول الاجتماعي في العالم العربي كله، توقف تقدم المجتمع، ولم تعد مخرجات التعليم والمعرفة تغري، لا ماديا ولا معنويا. السلطوي النافذ والمهرب المتمرس والقواد المحمي من المخابرات والتاجر المسنود، هؤلاء يحققون مداخيل وثروات ومكانة لا يحلم بمثلها أي متعلمين ومثقفين وعلماء. الفارق الحاسم أن أولئك المترقون الجدد لا يترقون إلا بتوقف عملية ترقي المجتمع ككل، وتوقف تحسن حياة من يتعلمون ويعملون ويجتهدون.
معدلات الأمية التي كانت تنحدر حتى سبعينيات القرن العشرين أخذت بالثبات، وحتى بـ»الترقي». ومستوى الحرية تراجع حتى اقتصر على شخص واحد في بلدان مثل سوريا والعراق وليبيا، والحال قريب من ذلك في مصر والجزائر وتونس والمغرب.
حداثتنا خلال نحو أربعة عقود سابقة للثورات لم تعد تقدمية وتحررية، حليفة لقدرات أكبر لعدد أكبر من الناس. وفي هذه السنوات بالذات أخذت تزدهر الحداثة كإيديولوجية مثالية تفسر الواقع الاجتماعي بالذهنيات، وتجد نفسها حليفة للحر الوحيد.
هذا الواقع وفر بيئة مناسبة لعمل إسلاميين يزعمون، تعسفا، أن لديهم الحل بقدر أصلح لقياس شراهتهم للسلطة. الواقع أن الحداثة المسكونة بماضوية الإسلاميين وظلاميتهم، والإسلاميين المسكونين بتكفير العصر ولعن العالم، وجهان لقطيعة تتعمق في مجتمعاتنا بين أمتين وعالمين وثقافتين وتاريخين، بفعل توقف عملية الترقي العام.
إن كان هذا التحليل السابق قريبا من الصواب، فأول العلاج هو استئناف الترقي العام: فرص أكبر لأعداد أكبر من الناس في حياة أفضل.
القدس العربي _ وطن اف ام